بقلم: محسن اليزيدي
أصدر الرئيسُ التونسي قبل أسبوع قراراته “التاريخية” بتجميد عملِ البرلمان وإقالة الحكومة، ونصّب نفسَه رئيسا للنيابة العامة جاعلا من شخصه الغريب إمبراطورا جديدا في المنطقة العربية بلا حسيب ولا رقيب، وزعيما مُلهَماً آخر لدولة كانت مهدَ الربيع العربي، والوحيدة في المنطقة التي ظلت آمالُ الجماهير العربية والمُسلمة في الانعتاق والتحرر معقودة عليها لمسيرتها الديموقراطية الفذّة. قرارات اعتبرها بعضُهم من الجهل أو النفاق تهوُّراً وخطأً في تأويل الدستور من رئيس منتخب يُريد القضاء على وباء كورونا الذي يضرب البلد، ووضع حد للانقسام والصراع الذي لا ينتهي بين مكونات الحقل السياسي الذي يؤثر سلبا على سرعة اتخاذ القرار تحت ضغوط اقتصادية واجتماعية هائلة، بينما هي في واقع الأمر انقلاب عسكري أمني كامل الأركان، يؤكد القاعدة المعروفة أن لا حياة للديموقراطية في الوطن العربي مهما بقيت. انقلاب غادر خبيث دُبّر من قبل في سراديب الاستخبارات العميلة على مهل، بدليل عرقلة تكوين المحكمة الدستورية من طرف الرئيس، والوقوف في وجه عدد من المشاريع التنموية العملاقة التي لم يكن ينقصها المال، وإطلاق العنان لذئاب الإعلام لتعوي وحيدة في الساحة المسيَّجَة من لدن الحرس القديم، ساحة صَهْيَنَة يومية وتَغْريب الحُملانُ فيها أبناءُ الحركة الإسلامية الوطنيون.
من هذا الانقلاب “الناعم” بالتعبير الصحفي نأخذ الدروس التالية، دروسا “خشنة” قاسية، قسوة من نفضوا أيديهم من الآخرة وركنوا إلى الرذائل، فباعوا الوطن وخانوا الملة، وسرقوا ونهبوا وأجرموا واستأسدوا:
– وأوضح درس أن الوصول إلى البرلمان وتشكيل الحكومة لا يعني البتة الوصول إلى الحكم، وأركانه في عصرنا الجيش والاستخبارات والقضاء والإعلام. لكن لا يجب الفهم بأن رئاسة هذه المؤسسات الحاسمة يعني الإمساك بمقاليد الحكم، فهناك دائما، سيما في الدول التي طالت فيها الديكتاتورية، “دولة عميقة”، أي شبكة من الأفراد والعائلات والمجموعات بينهم علاقات ومصالح متداخلة توارثت المناصب والمسؤوليات الجالبة للثروة داخل هذه المؤسسات الحساسة، شبكة معقدة تعمل خارج “التاريخ” والإيديولوجيا، تتجاوز “اختصاصاتها” البرلمان والحكومة، مستعدة للدفاع عن حصونها الأربع بأي وسيلة.
– الانقلاب العسكري على الديموقراطية واختيار الشعب لا بد له من غطاء مدني أو غيره. فإن لم يكن “استجابة لثورة الشارع”، التي ما هي إلا بلطجة مدفوعة الأجر ضخمها الإعلام المناوئ لحفنة من الجهلة والغوغاء، يكون “تصحيحا للمسار الديموقراطي”، أو “ثورة جديدة” تحت إحدى المسميات!
– انخراط كل قادة الحركة الإسلامية وصفوةُ رجالها في العمل السياسي وترك صحبة الشعب خطأ فادح. إن كان التغيير الحقيقي، تغيير العقول والأفئدة لتنخرط في معركة التحرير، يتطلب صبرا ومصابرة وطول نفس عبر أجيال، فلا أقل من عدم ترك هذه العقول والأفئدة عرضة لدجل ودعاية المرضى الغافلين.
– التنازل عن مبدأ من المبادئ المؤطرة للعمل السياسي الإسلامي لكسب الفئات المشككة أو لإرسال إشارات “إيجابية” للخارج، أو النزول عن سمت الإيمان لإرضاء عمرو أو زيد من الناس كرقصة الزعيم الإسلامي التونسي مع المرأة المتبرجة انتحار.
– ضعف “الثقافة” الديموقراطية لدى النخبة السياسية والفكرية ولدى النخب العسكرية والاقتصادية والأمنية، والحديث هنا عن النخب غير الكارهة للإسلام، وعدم تجذر الإيمان بالحرية في نفوس العامة بسبب الاستبداد القروني، وكلاهما مسألة تربية، يجعل عودة الحُكم الفردي المطلق أمرا سهلا. ينجح الانقلاب وتتمكن الديكتاتورية ليس لأنها مقبولة، بل لأنها مألوفة!
– لكن نخبة أخرى استئصالية حاقدة من هؤلاء وأولئك لا ترضى بالديموقراطية إلا أذا أفرزت صناديق انتخاباتها فوزا لغير الإسلاميين!
– التشبث بالديموقراطية والحرية يكون في الأزمات والنكبات وتحت الضغوط القاهرة، أما في حالة الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي والسير الطبيعي للمؤسسات فيُعتبر تحصيل حاصل. لذا من احتج بالأزمة لتبرير العودة إلى الديكتاتورية لا يعدو أن يكون مناورا يتآمر على الوطن والشعب ويخدم “أجندات” مشبوهة، لأن المطلوب عند الأزمة، وهي في حالة تونس مفتعلة، جمع الخصوم والأصدقاء وحشد الطاقات وتفعيل كل المؤسسات ورص الصفوف، صفوف كافة الأحزاب والنقابات والفاعلين السياسيين والمجتمعيين بدون استثناء للتغلب على الأزمة، وليس نبذهم جميعا وإعمال الرأي الواحد.
– صمت الفئة العُظمى من المجتمع الدولي عن إدانة الانقلاب والاكتفاء بعبارات الأسف والدعوة للحوار يُعلِم من لا يزال يشك أنه لا ينظر بعين الرضا – حتى لا نقول كلاما آخر- لنهضة المجتمعات المسلمة وتحررها.