ممّا يحز في النفس ويؤلم الفؤاد، ما وصلت إليه الأسرة المسلمة من تشرذم وتشتت وانفصال، حتى أصبحنا نعيش واقع الأسر الغربية، فقد وصلت نسبة الطلاق إلى أبعد ما نتخيل، وطغى البعد المادي على البيت المسلم، وتحولت العلاقات الزوجية إلى حلبة صراع تقوم على ميزان البيع والشراء، وأضحى الأبناء يدفعون ثمن زواج آبائهم الفاشل. وأتساءل كيف يمكننا العيش على هذا المنوال ونحن ندين بدين الإسلام ونقر بأن الإسلام هو منهج حياة ونظام رباني؟
إن الزواج في الإسلام هو تحصين للفرج، وغض للبصر، وحفظ للنسل البشري من الانقراض، وصيانة للأنساب من الاختلاط، وهو قبل هذا أو ذاك وسيلة للاطمئنان النفسي والقلبي.
ولكي تتحقق كل هذه الغايات في مملكة الزواج لابد لها من ثلاثية حتمية، ذكرها الله في محكم كتابه حين قال سبحانه وتعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21].
إذن البيت المسلم هو قائم على ركائز ربانية، سميت بثلاثية السعادة الزوجية وهي: السكن والمودة ثم الرحمة.
1. السكن
حين يكمل نقصه العاطفي بها وتكمل نقصها القيادي به، عندها فقط يحصل السكن بينهما، فتتبدد الخلافات، ويسود الدفء والأمان. فالزوجة هي الملاذ الذي يأوي إليه الزوج عند الشدائد والمحن، وتحضرني في هذه اللحظة قصة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه الوحي لأول مرة بغار حراء، فهرع إلى أمنا خديجة مفزوعا وهو يردد “زملوني زملوني، دثروني دثروني”. فالدثار الذي كان يبحث عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس دثارا ماديا فقط بل دثارا معنويا؛ أي الدثار النفسي العاطفي، فأمنا خديجة كانت بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم الأمن النفسي والحضن الدافئ، فهي التي آمنت به وآوته ونصرته بمالها وجاهها، إنها حضنه الداخلي وركنه الشديد.
إذن فالسكن هو نوع من الدثار العاطفي واللباس الوجداني، يقول الله سبحانه وتعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة: 187].
وإذا تأملنا كلمة (لباس) وجدناها تحمل معاني ودلالات عظيمة منها:
– الستر: فاللباس يستر الجسد والعورة حتى لا تنكشف السوأة، وكذلك الزوجان يستر أحدهما الآخر، ولا يفضح عيوبه ونقائصه، فالحياة الزوجية مبنية على الستر، لا على الكشف والفضيحة، وفي الحديث: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» 1.
والزوجان هما أعلم الناس ببعضهما البعض، ولكل منهما أسراره التي يبوح بها إلى شريك حياته، لذلك حفظا للألفة والسكن بينهما وجب عليهما ستر أسرارهما، وعدم الكشف عنها درءا للمشاكل والخلافات.
– الوقاية والحماية: اللباس يحقق الوقاية من الحر، والدفء والحماية من البرد، أما الزوجان فيحصنان بعضهما البعض من الوقوع في الفاحشة. فالزوجة الصالحة تعف زوجها وتحصنه من ارتكاب الفاحشة واستراق عورات المسلمين، وذلك بالتزين والتجمل وحسن التبعل لزوجها حتى يصدق فيها الحديث النبوي «انْصَرِفِي أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ، وَأَعْلِمِي مَنْ خَلْفَكِ مِنَ النِّسَاءِ أَنَّ حُسْنَ تَبَعُّلِ إِحْدَاكُنَّ لِزَوْجِهَا، وَطَلَبَهَا مَرْضَاتِهِ، وَاتِّبَاعَهَا مُوَافَقَتَهُ تَعْدِلُ ذَلِكَ كُلَّه» 2.
حسن التبعل والسعي لمرضاة الله سبحانه وتعالى ثم مرضاة الزوج يعدل الجهاد، هذا ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم حين سألته أسماء بنت يزيد الأنصارية عن فضل النساء في الجهاد، فنوه بها وبمسألتها وأجابها إجابة شافية كافية لكل نساء العالم.
وحسن تبعل الزوجة لزوجها هو وقاية وأمان له من زنى العين الذي يقوده للشهوات ونزوات الشيطان، فهي لباس له وستر له من ارتكاب المحرمات، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم «إذا رأى أحدكم من امرأة ما يعجبه، فليأت أهله، فإن ذلك رَدُّ ما في نفسه» 3.
وكما أن للرجل حق التحصين، فالزوجة لها نفس الحق على زوجها، إذ ينبغي أن يتجمل لها كما تتزين له، ويسمعها الكلام الطيب ويتغزل بجمالها، حتى يعفها كما تعفه، ففي ذلك حماية لها من الوقوع في الإثم والمعصية. فكم من امرأة وقعت في الخطيئة بسبب إهمال زوجها أو بعده عنها إما بسفر أو هجران. وتحضرني في هذا السياق قصة المرأة التي جاءت إلى سيدنا عمر تشكو مُباعدة زوجها عن فراشه وتطلب حقّها في ذلك. فأوكل عمر بن الخطاب القضية إلى كعب بن سور الأزدي ليقضي بينها وبين زوجها الذي انشغل عنها بالعبادة و التحنّث، فلم يشفع لزوجها قيامه بالليل وصيامه بالنهار في إعطاء حق العفة والتحصين لزوجته، فهذا هو عدل الإسلام، هذه هي المساواة بين الرجل والمرأة؛ هي لباس له وهو لباس لها.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: “كانت المتعة الحلال حظا معروفا محبوبا لتلك النفوس الجادة المجاهدة. وكان الحديث عنها وممارستها شأنا من شؤون دنيا كل أحد، وشأن من الشؤون العامة التي يشجع عليها الدين” 4.
– الجمال: اللباس يحقق الجمال، فالإنسان يتزين ويتجمل بلباسه، وكذلك الزوجان يجمل أحدهما الآخر بحسن الخلق والمعاملة الحسنة والكلمة الطيبة.
– التعديل: اللباس خاضع للتعديل، فإذا كان الثوب لا يناسب الإنسان وليس على مقاسه فيمكن تعديله إما بالزيادة أو النقصان، ونفس الأمر بالنسبة للزوجين، فيمكن لكل منهما تعديل شريك حياته بالتغاضي عن عيوبه ونقائصه، وغض الطرف عن مساوئه ومحاولة استحضار محاسنه، وذكرها أمامه، والتنويه بها حتى تتآلف القلوب وتسود المحبة بينهما.
إذن فالسكن في الحياة الزوجية هو ستر وحماية وتجمل وتعديل، هو الحضن النفسي والعاطفي للزوجين معا حتى تنجح العلاقة الزوجية بينهما فلا تشوبها شائبة، ولا تتخللها الخلافات والمشاحنات وكأنهما في حلبة مصارعة. فالسكن النفسي العاطفي هو صمام الأمان للعلاقة الزوجية وبدونه تصبح العلاقة على شفا جرف هار.
2. المودة
المودة هي مصدر ميميّ من وَدَّ. وهو شعور بالانسجام بين شخصين أو أكثر، ينبع من الاحتكاك الاجتماعي والعاطفي الدائم.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: “المودة هي: المحبة، والرحمة هي: الرأفة، فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو لرحمة بها بأن يكون لها منه ولد”.
والحب المطلوب في الإسلام بين الزوجين هو الحب المتعلق بمحبة الله ومرضاته، فيكون التقرب إلى الزوجة نوعا من التقرب إلى الله والسير على هدي نبيه، إذ بهذا النوع من الحب تقوى أواصـر المودة والتلاحم بينهما، وتدوم العشرة الزوجية، ويسود السلام والاطمئنان في الحياة الأسرية. قال ابن القيم: “فلا عيب على الرجل في محبته لأهله وعشقه لها إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له من محبة الله ورسوله وزاحم حبه وحب رسوله، فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة، وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة” 5.
وخير دليل على قدسية الحب في الإسلام بين الزوجين حديث عمرو بن العاص – رضي الله عنه – أن النبيﷺ بعثه على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته، فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال ﷺ: عائشة، فقلت: من الرجال، فقال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب، فعد رجالا. ففي هذا الحديث صرح ﷺ لعمرو بن العاص -وكان حديث عهد بالإسلام- بمحبته لعائشة رضي الله عنها، دون خجل أو استحياء، حتى يعلمنا أن الإسلام أباح الحب بين الأزواج طلبا لمرضاة الله، وبغية تحقيق الاستقرار الأسري في البيوت المسلمة.
بل اشتهرت قصة حب النبي ﷺ لزوجته عائشة، حتى كان مسروق رحمه الله يقـول إذا حدث عنها: (حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول االله ﷺ المبرأة من فوق سبع سموات) 6.
ومن ثمرات الحب بين الزوجين دوام العشرة بينهما إلى نهاية العمر، العشرة القائمة على التجمل بالصبر، والوفاء الدائم بينهما، فكم من بيوت انفرط عقدها إما بسبب عدم تحمل الزوجين لبعضهما البعض، أو بسبب قلة الوفاء وانعدام الثقة بينهما، ناهيك عن العلاقات الزوجية القائمة على تبادل المصالح والنيات المبيتة.
ومن ثمرات الحب أيضا التغاضي عن هفوات المحبوب ونقائصه، والحرص على إرضائه بكافة الطرق، قال الإمام الشافعي:
وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ
وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا
والرضا لا يكون إلا بالاحترام المتبادل والمعاشرة بالمعروف، وطاعة الزوجة لزوجها طاعة لله ورسوله، وتفاني الزوج في القيام بواجبه نحو أهله امتثالا لأمر الله وطمعا في مرضاته.
وهكذا فالمودة هي الرحم التي يترعرع بداخلها الحب العفيف بين الزوجين، وهي إكسير الحياة الزوجية.
3. الرحمة
الرَّحمةُ: مِن رَحِمه يَرحَمُه، رحمةً ومَرحَمةً: إذا رقَّ له، وتعطَّف عليه، وأصلُ هذه المادَّةِ يدُلُّ على الرِّقَّةِ والعَطفِ والرَّأفةِ، وتراحَمَ القومُ: رَحِم بعضُهم بعضًا.
ومنها الرَّحِمُ: وهي علاقةُ القَرابةِ. وسميت رحم الأنثى رحماً من هذا؛ لأن منها ما يكون ما يرحم ويرق له من ولد.
والرحمة هي صفة الله جل وعلا، تثبت له على ما يليق بجلاله وعظمته، من ذلك قوله عز وجل: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156]، وقوله سبحانه: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ [الأنعام: 133].
ويكفي الأزواج شرفا أن الله سبحانه وتعالى، قرن بينهما بهذه الصفة العظيمة التي هي صفة من صفاته، فالرحمة هي صمام الأمان في الحياة الزوجية، بها تسود المودة وتتوثق العلاقة. وإذا ضعف الحب والمودة في الزواج، يمكن للحياة أن تستمر في ظل الرحمة بينهما، لكن إن فقدت الرحمة فمن المستحيل أن يتحمل بعضهما البعض حتى لو كان الحب هو الذي جمعهما، فالرحمة هي الخصلة التي تجعل الزوجين يصبران على بعضهما البعض، فيرق أحدهما للآخر ويتغاضى عن الكثير من الأمور رحمة بالطرف الآخر، فلا يكلفه أكثر من طاقته، وبالرحمة تلين قلوب الأزواج لبعضها البعض فتزداد المهج محبة ومودة وترابطا، مما يسهم في العشرة الطويلة بينهما، فكم من بيت هدم بنيانه بسبب انعدام الرحمة بين جدرانه، وطغيان الأنانية المستعلية في نفوس أصحابه.
إذن فالرحمة هي مفتاح السعادة بين الزوجين وهي امتداد للحب والمودة بينهما، فلا يمكن العيش بين اثنين مختلفين في الطباع والصفات، ومتباينين على المستوى الثقافي والاجتماعي دون أن يشيع بينهما الرفق واللين والرحمة المتبادلة.