ثمرات من صحبة الإمام والمنهاج (2).. بين جاذبية الإسلام وأماني الجاهلية العالمية

Cover Image for ثمرات من صحبة الإمام والمنهاج (2).. بين جاذبية الإسلام وأماني الجاهلية العالمية
نشر بتاريخ

1- ولادة الفطرة

إن نفوس شبيبة الإسلام اليوم تتلقفها شيطنة الحضارة المادية البراقة، وتعمي أعينها بهرجة رموزها التافهين في الفن والموسيقى والجنون الماكر للعالم الأزرق. ومن جهة ثانية ذلك التيه عن حقيقة كينونتهم كشباب مسلم بالفطرة والتراب والدم والجغرافيا، ما بين أسرة فقدت بوصلة المورثات الإيمانية ومجتمع يرزح تحت سلطة العلمانية في كل مناحي الحياة.  في عالم موار، أتستطيع شتلة الفطرة النقية الموحدة لرب العالمين أن تصمد أمام هذه الطواحين المدمرة والمغريات؟ وهل تستطيع أن تبرعم إسلاما وإيمانا حقيقيين ينبتان أدبا وخلقا وسمتا؟

يحاور الإمام رحمه الله فكر الشباب التائه بين ولادة فطرية في بيئة توسم بالإسلام وهي غريبة عنه جاهلة لشرعته، قد نشبت جاهلية الألفية الثالثة مخالبها في جسم ذلك المولود الغض الطري، تعلمنه أو تؤليكه، أو تشككه في دين الإسلام. يقول رحمه الله متسائلا على لسان من يفتش عن الكينونة التائهة: “كيف السبيل إلى كنف الإسلام إذا كنت مسلما بالمواطنة، وإذا كانت الحبال التي ربطتني قديما بعقيدة أبي – الذي أراه منذ نعومة أظافري يصلي – قد اندثرت فلم يبق منها إلا نتف متناثرة؟” 1. يواصل هذا الشاب تحريك كوامن فطرته بشدة، وزعزعة فكره الخامد عن التأمل في مسار حياته، يحكي عنه الإمام رحمه الله: “كيف السبيل إلى تعلم مبادئ الإسلام إذا كنت وليد مجتمع لائكي لا يبالي بشؤون العقيدة، وإذا كنت أحس بجاذبية غامضة نحو الإسلام تدفعني إلى تعميق معرفتي به، بل إلى محاولة تطبيقي لتعاليمه؟” 2.

تيقظ القلب والفطرة السليمة من كل شرك وكفر تكفل به رب العزة في كل زمان وحين، سبحانه هو الملك المالك لكل حركة وسكنة ونسمة آدمية في هذا الكون. ومن تمام لطفه أن وضع أسباب هذه الهداية رسالة وتبليغا على يد الرسل. وما بعثهم تترى إلا لإيقاظ هذه الفطرة من نومتها الدهرية. نقرأه في السيرة العطرة كيف تتعنت رقاب قريش وتقسو قلوبهم عن سماع خبر دين محمد الجديد، ثم تلين أخرى وتهفو إليه وتعترف أنه الحق وقوله الحق، وكل ما جاء به حق يأفك أصنام العرب ودين الأجداد. رسول عظيم مبعوث رحمة للعالمين برسالة الإسلام.  على يده عرف الناس أن دين الإسلام “هو استسلام قلبي لله عز وجل واعتراف به. ما كان ليبدل تلك الجاهلية الغليظة برقة الأخوة الإيمانية لولا حكمة الداعي المعصوم صلى الله عليه وسلم ولولا معرفته ببيئته” 3. يصلنا خبر خيرة شباب المسلمين أهل السابقة بالإيمان والإحسان والجهاد والهجرة الفتى المجاهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ باب من أبواب العلم والحلم. ويستأنس شباب المسلمين برحلة الشاب الصحابي الجليل سلمان الفارسي صاحب الخندق.

 ذلك الفتى المجوسي البيئة والأسرة، كيف تحدى التربية التي مجست فطرته، وعبدته نار الكهان الموقدة في بيته. رحلة بحثه كانت فرارا من نار الكفر ووثنية زمانه إلى ضياء الحق واتباع النور النبوي. يبحث عن الدليل للحق والبرهان، مقتفيا كل أثر ينبئه عن صاحب القرآن والفرقان بين الباطل الذي اكتوى به خلال ترحاله ومقامه بين النصرانية واليهودية. اهتدى بتوفيق من بارئ الفطرة رب العالمين إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى به المقام أن جلس في محفل النبوة بين الصحب الكرام صاحبا وفيا وأخا كريما.

حفظت الفطرة في العصر الذهبي لأن الشباب كانوا في محضن النبوة يتلقون التربية بالوحي فتصير أخلاقهم على نهج القرآن. وفي زمننا حري بكل مرب وراع أمين أن ينخرط في ركب التغيير. أن تعاد الإنسانية كلها للفطرة التي فطر الله الناس عليها حتى تستقيم الأنفس على شرعة القرآن ومنهاج النبوة، ليس هناك حل آخر ولا ينبغي استدعاء أي دين مفلسف أو أيديولوجية متآكلة لأجل الغرض. لأن الطبيعة البشرية لا يقيم عودها ورقيها، ويحفظ كرامتها وآدميتها، ويبصرها بغايتها في عمران الأرض إلا بلاغ الوحي وهداية الإسلام.

 الإسلام دين الفطرة الإلهية؛ به استمسك من كانوا قبلنا فسادوا على كل الأمم، وتحرروا من الظلمات، وذاقوا حلاوة النور والإيمان. لذلك يعطي الإمام رحمه الله أولى وأهم الخطوات الأساس، هذا النور الكاشف لحلكة الباطل والجاهلية هو التربية، يقول رحمه الله مرشدا وموجها: “إنها الأسبقية للتربية. والتربية أبوة وأمومة، وفطرة يورثها جيل سالم لجيل ناشئ يتعرض للتلقي، ويقبله، ويمتص، ويرشف، ويرتوي” 4.

2- التصالح مع الخالق

درست أجيال التغريب من شباب بلاد الإسلام على يد الجاهلية الحداثية المتلفعة بعباءة الإسلام وفي حلة مبهرة أن هذا الدين إيديولوجية ولا يعدو أن يكون إلا فكرا مؤدلجا من بين المعتقدات الأخرى. وأن القرآن تراث، وأن السنة وتعاليمها محض تقاليد، وأن المسلمات لاهوتا، والغيب كهنوتا. وزخم كبير من المفاهيم المستحدثة المستهدفة لفكر الشباب في ديار الإسلام. هو يدخل ضمن مشروع المؤامرة والهجمة الاستكبارية العالمية على الإسلام وتقزيم صورته وغلقها في سرداب إساءة المسلمين لدينهم جهلا وسوء فهم وتطبيق لحقيقة هذا الدين الخالد. يقول الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ 5 ويقول في موضع آخر وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ 6، وقد خسر الحياة والآخرة من اختار سبيلا غير دين الله الأوحد في الكون.

لقد أعلنها توبة لفطرة باحثة عن الاستقامة. سلمان رضي الله عنه قطع حبال كل عقيدة تجهل أو تحرف معنى الألوهية الصرفة وعبودية البشر لخالقهم سبحانه جل وعلا. جلس للهادي البشير صلى الله عليه وسلم تعظيما وتوقيرا. تعلم، وبسط النفس للتربية حتى أذعنت للعمل بالإسلام وأركانه، وصدقت بالإيمان وشعبه، وانخرطت في بناء جماعة المؤمنين في المدينة. لابد لشباب اليوم أن ينفض العجز والكسل ويقبل على بارئه ومصوره، ويتساءل كما قال الإمام رحمه الله تعالى التساؤل الملح الجدي عن مصيرنا: “إلى أين أمضي؟” 7.

كان ظن سلمان بالخالق خيرا حين رفضت فطرته ألوهية النار، ووثنية الكنيسة، ورهبنة المعابد، فكان الله معه. وما زال يتقرب بحثا عنه حتى قربه، فالتقى محبوبه ومصطفاه الرحمة المهداة للعالمين. في الحديث القدسي تتجلى حقائق القربى من الله ومعيته ومعية من أحب وكل ما يحب: “وأنا معه إذا ذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة” 8. يتأمل الشاب إلى أين يمضي به صغره وشبابه من غير قربى من الله تعالى. فلا إثابة أو قبول من غير طاعة وخضوع. حتى يستجيب القلب نداء الحق “يجب إذن أن نقتلع ذواتنا من مستعجلات الحياة” 9 وأمانيها وغرورها. وإن بدا صعبا في عصر الرقمنة والثقافة والفكر الجاهز والاستهلاك السريع، فالفطرة السليمة تنأى عن كل ما يخدشها ويفسدها، هي منه وإليه، ولا يقبل الله إلا من أتى الله بقلب سليم.


[1] عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ص 239.
[2] نفسه.
[3] عبد السلام ياسين، القرآن والنبوة، ص 51.
[4] عبد السلام ياسين، سنة الله، ص 264.
[5] آل عمران: 19.
[6] آل عمران: 85.
[7] عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ص 240.
[8] البخاري (7405) ومسلم (2675).
[9] نفسه.