يبدو أن البعض قد اختلطت عليهم مفردات الثورة، وربما حتى حروفها، في هذا الزمن الثوري، فراحوا يضربون أخماسا في أسداس وصارت كل حركة صغيرة أو مناورة ماكرة، في منطق هولاء ثورة هادئة كبرى تصلح للتصدير إلى العالم الخارجي، حيث الفتنة والفوضى والقلاقل تهز أركان البلاد والعباد! …، تكريسا لمقولة الاستثناء المغربي المزعومة التي استنبتها المخزن في هذه الأرض عبر تاريخه الطويل طول ظلمه وفساده… فلسفة هذا الاستثناء تقول: كيف يمكن تغيير كل شئ دون أن يتغير أي شئ! ذلك ما يحاول شرحه لنا وإقناعنا به، بطرق شتى، هؤلاء الذين يتحدثون عن “ثورة الصناديق” وعن مرحلة “القطيعة”…. كأن نزاهة الانتخابات هي أعز ما يطلب في البلد، وحتى إذا جارينا منطق هؤلاء “الثوار الجدد” وتفحصنا الصناديق بكل تجرد وموضوعية فإننا سننتهي إلى نتيجة مخجلة جدا.
حتى ليلة الاقتراع كان أغلبية الملاحظين والفاعلين السياسيين يتحدثون عن حملة باردة وإعراض لافت للناس عن الانتخابات وما يتصل بها، في مقابل ذلك سجلت فعالية المقاطعين وحركيتهم النشيطة في كل المدن والقرى المغربية. وقد تعزز حضورهم أكثر بحركة 20 فبراير التي كانت وراء هذه الانتخابات التي نظمت قبل أوانها المحدد وكذا الاصلاحات الدستورية على علاتها وقزامتها، ناهيك عن انضمام أحزاب أخرى إلى معسكر المقاطعين. ولأول مرة توجه دعوة رسمية إلى الشعب لمقاطعة الانتخابات من طرف قوى وازنة وذات شعبية واسعة… ما يعني منطقيا أن نسبة المقاطعين ستكون مرتفعة جدا، لكن أيادي التزوير والتحوير كانت لها كلمة أخرى. أكثر من ذلك كله، وحتى لو افترضنا جدلا صحة نسبة المشاركة المعلنة رسميا، فالنتيجة لن تتجاوز 20 في المائة، بحساب الكتلة الناخبة غير المسجلة والأصوات الملغاة، إذن أية مصداقية لانتخابات هجرتها الأغلبية الساحقة من الشعب المغربي. وعليه فإن هذه الصناديق فارغة من كل معنى. ولا يمكننا أن نعتبرها ناجحة فقط لأن أغلبية القلة المشاركة صوتت لحزب نظيف.
ثم إن السلوك الانتخابي ظل هو هو، ولم يتغير فيه أي شئ، حيث التزوير واستعمال المال الحرام واستغلال النفوذ السياسي والاقتصادي واستغلال تجهيزات الدولة… وكل هذه الخروقات موثقة بالصوت والصورة. وجميع الأحزاب تحدثت عن ذلك بدون استثناء، ولقد رأينا كيف تحدث الأستاذ سعد الدين العثماني عن “الانزال الفظيع للمال” أثناء الحملة الانتخابية، بل ذهب زميله في الحزب السيد أفتاتي بوجدة بعيدا في تصريح مصور حين دعا يوم الاقتراع الشعب المغربي إلى أخذ كرامته بيده، لما هاله حجم الخروقات وصمت المعنيين بالأمر.
الفراغ الثاني، وهوالأخطر، وهو غياب دستور ديموقراطي، هذا الفراغ يسده الملك طبعا بصلاحياته الواسعة وسلطاته المطلقة، وهذا يعني غياب الأرضية السياسية والدستورية الملائمة لتنزيل نتائج الصناديق مما يجعل من الحكومة مجرد كومبارس في فيلم رديء إخراجا وتمثيلا.
لقد كان واضحا أن نسبة المشاركة كانت هي التحدي الأكبر للمخزن، لأنها تعتبر بمثابة استفتاء شعبي على المسار الاصلاحي المخزني، أما النتائج فأمرها هين عنده مادامت الأحزاب قد تشابهت وصارت ملساء ولم يعد من بينها من يقول لا للمخزن. وحتى في حالة ما إ ذا سعى حزب ما لتغيير جلده فإنه يملك من الخطط ما يكفي لتأديبه وقلب الطاولة عليه.
هذا، وللصناديق الثائرة “واسع النظر”.