جبر الخواطر في القرآن الكريم

Cover Image for جبر الخواطر في القرآن الكريم
نشر بتاريخ

أولى الإسلام اهتماما كبيرا بالقيم والمثل العليا، التي تهذب السلوك والأخلاق وتزكي النفوس، وتساهم في بناء مجتمعات متماسكة ومتآخية، ومن أبرز هذه القيم الفاضلة: جبر الخواطر؛ باعتبارها قيمة تسمو بالنفس الإنسانية، وتعلو بها نحو التراحم والتعاطف، فجبر الخواطر عبادة خفية تكاد تتلاشى في زمن الماديات والمصالح الشخصية والأنانية المفرطة.

إذا وقفنا على معنى “الجَبْر” في اللغة نجد:

ج ب ر: الجَبْرُ أن تغني الرجل من فقر أو تصلح عظمه من كسر وبابه نصر 1.

جبَر خاطرَه: أجاب طلبَه، عزّاه وواساه في مصيبةٍ حلَّت به، أزال انكساره وأرضاه 2.

جبَر القلوبَ المنكسرة: آسى المحزونين، واساهم.

جبَر الفقيرَ/ جبَر اليتيمَ: كفاه حاجتَه، أصلح حاله، أحسن إليه، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاجْبُرْنِي وَاهْدِنِي.

والجَبْر كلمة مأخوذة من أسماء الله الحسنى “الْجَبَّارُ “، قال الله سبحانه وتعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الحشر: 23].

يرى الإمام الطبري (رحمه الله) أن معنى “الْجَبَّار “؛ “هو المصلح لأمور خلقه، والمُصرِّفَهُم فيما فيه صلاحهم” 3.

أما الإمام السعدي (رحمه الله) فيقول: “الْجَبَّار” هو بمعنى: “العلي الأعلى، وبمعنى القهار، وبمعنى الرؤوف، وهو الذي يجبر الكسير، ويغني الفقير، ويجبر المريض والمبتلى، ويجبر جبرًا خاصًا قلوب المنكسرين لجلاله، الخاضعين لكماله، الراجين لفضله” 4.

انطلاقا من هذين التعريفين نستشف أن لفظ “الْجَبَّار” يتضمن معنيين اثنين: جبر القوة؛ فهو القوي الذي يقهر الجبابرة ويغلبهم بجبروته وقهره. ثم جبر الرحمة؛ هو الرحيم الذي يجبر الضعيف بالقوة والغنى، ويجبر القلوب المنكسرة ببعث الأمل والطمأنينة فيها، فهو سبحانه جبار متصف بكثرة جبره لخلقه.

نماذج من جبر الخواطر في القرآن

حث القرآن في مواضع عديدة على جبر الخواطر كقوله سبحانه وتعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ  [الضحى: 9]، أليست هذه الآية دعوة صريحة من الله سبحانه وتعالى لنبيه إلى جبر خاطر اليتيم والسائل، وهو من ذاق مرارة اليتم في الصغر، ألا تعلمنا هذه الآية كيف نراعي مشاعر الآخرين، فنتودد إليهم ونجبر خواطرهم.

ألم يجبر الله سبحانه وتعالى خاطر نبيه يوسف عليه السلام بعد كل ما عاناه من ظلم وقهر حين قال له: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف: 57].

لقد جبر الله سبحانه خاطر سيدنا يوسف، فمنحه المكانة العالية والرفعة والسمو في الدنيا والآخرة، أصبح عزيز مصر، وجمعه بأهله بعد فراق طويل، فانتقل من الجب إلى العزة.

ويأتي الجبر الرباني لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في لحظات الشدة والضيق في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ﴾ [الضحى: 5]  فأعطاه ربه ما لم يعطه لأحد من أنبيائه حتى أرضاه.

ويحضرني هنا كيف جبر الله خاطر حبيبه المصطفى في صورة من أبهى الصور، التي تبرز مكانة خير البرية عند ربه. سألت أمنا عائشة رضي الله عنها الرسول عن أشد الأيام عنده صلى الله عليه وسلم بخلاف يوم أحد، فيتذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العقبة؛ (فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا) 5.

هل يوجد جبر يضاهي هذا الجبر الإلاهي، لقد غضب الله لحزن نبيه وشعوره بالهم والضيق، فأمر ملك الجبال أن يطبق الجبال على كفار قريش جبرا لخاطر نبيه المصطفى، لكن الحبيب الذي بعث رحمة للعالمين استبعد هذا العقاب الإلاهي وتوسم في قومه الخير، راجيا أن يخرج من أصلابهم من ينصر دين الله.

ومن أعظم الجبر في القرآن؛ جبره سبحانه وتعالى لخاطر سيدنا أيوب حين قال الله سبحانه : ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ  فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 84-83]. استجاب الله دعاء نبيه وجبر خاطره فرفع عنه البلاء، ورد عليه عافيته، وعوضه في أهله وأولاده، وبارك له في رزقه، جزاء صبره وإيمانه.

ومن صور الجبر الربانية للنساء، نقف على قصة أم موسى عليه السلام حين أمرها برمي فلذة كبدها في اليم، فانصاعت لأمر ربها، وقلبها ينفطر ألما وخوفا على رضيعها الصغير ، فجبر الله خاطرها في قوله سبحانه وتعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7].  وصدق الله وعده ورد الرضيع إلى صدر أم موسى ليقر به عينها، ويهدأ بالها بعد الخوف والفزع، فكانت عودته معجزة من معجزات الله؛ فقد رفض كل المراضع لترضعه أمه التي أنجبته، جزاء يقينها في موعود الله وامتثالها لأمره.

تظهر هذه النماذج الراقية من جبر الخواطر في القرآن الكريم أهمية هذه القيمة والعبادة العظيمة؛ التي تعد من أنبل وأسمى القيم، إذ هي ليست تصرفا عابرا أو رد فعل لحظي، بل هي سلوك قويم يعكس صفاء السريرة وصدق الإيمان.

وتتعدد صور جبر الخواطر في حياتنا الاجتماعية؛ فقد يكون بكلمة طيبة لصديق أو قريب أو رفيق، أو لمسة حانية على يتيم أو مشتك مفجوع، أو من خلال تنفيس كربة مكروب أو مديون، أو الأخذ بيد ضعيف مريض، أو بإنصاف مظلوم، أو التصدق على مسكين متسول. فمن سار بين الناس جابرا للخواطر أدركه الله في جوف المخاطر.


[1] قاموس مختار الصحاح.
[2] معجم المعاني الجامع
[3] جامع البيان عن تأويل آي القرآن (10/ 7983).
[4] فتح الرحيم الملك العلام، ص (30).
[5] أخرجه البخاري (3231)، ومسلم (1795) باختلاف يسير.