مسيرة الأربعين في تاريخ العدل والإحسان.. نظرات وثمرات -5-
جماعة العدل والإحسان: آراء وقضايا
يصل بنا الجزء الخامس من هذه المقالات التي خصصناها للنظر في جوانب متعددة من الفكر التصوري والسلوك الدعوي لجماعة العدل والإحسان إلى تناول رؤية الجماعة للعديد من القضايا ذات الأبعاد المختلفة، والتي تهم فهمها لمعنى الدين ودلالة السياسة، وقراءتها للتمايز بين الديموقراطية والشورى، ونظرتها للأخلاق والقيم في عالم تسيطر عليه المادية الجشعة. على أن نخرج منها كالعادة ببعض الثمرات المفيدة التي تقدم بعض الموجهات الأساسية التي تسهم في فهم حركيتها داخل المجتمع.
دين أو سياسة؟
أدت القرون الطوال للانكسار التاريخي الذي حوّل دفة الحكم من خلافة راشدة إلى ملك عضوض ثم ملك جبري، إلى إحداث شرخ ليس فقط في البناء العام للشخصية الإسلامية التي افتقدت توازنها وشمولية تربيتها وتوزعت مُزَعا تمزقت فيها هذه الشخصية وتشتت فيها القلب والعقل والإرادة، وإنما أيضا إلى إحداث شرخ في فهم معنى الدين الكامل الذي أنزله الله عز وجل ليعتق الرقاب من عبادة العبيد إلى عبادة الرب المتعال. وسيزداد هذا الشرخ مع إناخة الاستعمار بكلكله وقضه وقضيضه على عقول الناس وثقافتهم فإذا بالدين شأن شخصي لا دخل له بالسياسة وممارسة الشأن العام، ولا إِرَبَ له في مقاربة واقع الناس وتدبير معاشهم وسياسة أمورهم.
ترى جماعة العدل والإحسان مستفيدة مما أثله الإمام عبد السلام ياسين أن هناك ثلاث هزات صدمت الفكر الإسلامي النقي: هزة الغفلة عن الله وما نجم عنها من نسيان الله ونسيان الدار الآخرة، وهزة حكم السيف وما نشأ عنه من دين الانقياد للاستبداد والظلمة، وهزة الاستعمار وما نتج عنه من نحلة الغالب المسيطر الذي اتبعه المغلوب منبهرا ذليلا. لذا كان من الهوام والطوام الكبرى التي تقف ضدها جماعة العدل والإحسان، والتي أضحت تمثل قواعد ومسلمات كادت أن تدخل في باب “ولن تجد لسنة الله تبديلا”، ثلاث أفكار رائجة مروجة في دنيا الوعي الشعبي العامي، بل وفي ذهن النخبة العالمة والنخبة المثقفة والنخبة السياسية: أولها مسلمة أن الدين شأن فردي شخصي وأن من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه، وثانيها أن الحاكم ظل الله في الأرض والخليفة القائم على تدبير شؤون الرعية قياما لله على تدبير شؤون الخلق فتولدت هذه المماثلة بين رعاية الله للخلق ورعاية الحاكم للرعية. وثالثها أنه لا تطور ولا تحديث خارج ما بناه الفكر الغربي بعقلانيته وحداثته وتقدمه. فتولد عن هذا الخليط أنه ليس بالإمكان التفكير خارج ما هو قائم مما يرتضيه الاستبداد المحلي أو الاستكبار العالمي، لتصادر بذلك أقوى قيمة جعلها الله مناط الاختيار ألا وهي “الحرية”.
نُقِضت عرى الإسلام عروة عروة كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم. تسلط التراث السياسي على الفكر الإسلامي بتسلط السيف والحكم. ضاعت استقلالية العلماء، وغاب معنى الدين الحقيقي الذي ارتضاه الله عز وجل للعالمين، وغُيِّب الإحسان وصُمِت عن المعاني القلبية. بَان الملك عن الخلافة، وانشطرت الدعوة والدولة، وساد الفقه السلطاني، وهدمت الشورى، وافتقد العدل فانهارت الأمة. تسلط التراث الغربي وفكر الحداثة بتسلط الاستعمار الذي غدا النموذج المقتدى والمثال المعتمد. وجاء الاستقلال المفترى عليه فإذا الدويلات المسلمة شتات وشتيت، وإذا المسلمون غثاء، وخليط من أصالة مفتقدة وحداثة ممسوخة أفرزتا هوية ضائعة تائهة.
إن مهمتنا تقول وترى جماعة العدل والإحسان أن نصل ما أمر الله به أن يوصل بإزاء القرآن والسنة، ومن أعالي التاريخ، وأن نرتق هذا التمزق القلبي والفكري والعقلي والحركي الذي جنى على الأمة. بهذا يكون الدين المقصود في المعنى المنهاجي مراتب تشمل الإسلام والإيمان والإحسان، ويكون السلوك الإسلامي الجدير باسم الإسلامية هو إسلام الوجه والوجهة لله عز وجل، والاستعداد الدائم الدؤوب للقائه والعرض عليه يوم القيامة، ثم السعي الإرادي للارتقاء في تلكم المراتب والمدارج حتى بلوغ درجة أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وبهذا المعنى ليس الدين هو ما يقدمه الفهم الكَنَسِي الغربي ل “روليجيون religion”، وليس يُحصَر الدين في ما يسمونه طقوسا وتراثا وثقافة وعوائد وتقاليد وفلكلور. إنما الدين شامل لكل مناحي حياة الفرد الدنيوية والأخروية، وليس يجزئ المرء أن يعتقد أن انزواءه لصلواته وذكره وأوراده يغنيه عن التهمم لأمر المسلمين ومشاكلهم. إنما الدين ما أمر به القرآن وسنّته السنّة، وقدمت نموذجه التاريخي الماثل التجربة النبوية الخالدة، وفترة الخلافة الراشدة، وأبدعته فهوم العلماء العاملين والأولياء المجددين من جمع الإيمان القلبي بالتفكر العقلي وبالإرادة الحركية، ومن قرن الدين بالسياسة، ولَمِّ الدعوة بالدولة، وجمع شتيت الشخصية الإسلامية الممزقة. وإن مما مَنَّ به الله عز وجل على جماعة العدل والإحسان هذا التوفيق في احتضان الآلاف من الشباب المتعطش لدينه الراجع إلى ربه في محاضن إيمانية، من دون أن يجدوا تناقضا بين وقوفهم وتبتلهم بين يدي الله ليلا، وسبحهم في دنيا المعاش نهارا، وحمل هم المستضعفين في كل وقت وحين، فدرأت عنهم بذلك الانزواء في التكايا، والانحراف والتطرف في السلوك، والتيهان في معمعان الأفكار.
وعن هذا الفهم السديد لدين الله، انبثق الفهم المسدد لمن هو الحاكم والمسؤول السياسي الذي لم يعد إلاَّ بشرا خَطَّاءً لا مُتَحَدِّثا باسم الله ولا نائبا عنه، لتتولد نظرية فكرية سياسية تعيد قراءة ما أنتجه الفكر الإسلامي قراءة جديدة نسقية سياقية بفقه جامع مجدد، وبعيون الكتاب والسنة الشاهدة، وبمفاهيم منهاجية أصيلة، وبانفتاح واع على ما أبدعته الحكمة البشرية. ولتطرح قضية الشورى المهدورة موضع نقاش لتعيد إلى الواجهة مسألة سلطة الأمة في اختيار من يحكمها وفي مراقبته ومحاسبته وتقويمه وعزله إن اقتضى الأمر ذلك. وهنا استطاعت جماعة العدل والإحسان أن تقتحم حمى كان محرما على الكلام والتفكير، وأن تضع موضع النقد بالمعنى الحديث والنصح بالمعنى القرآني سلوك الحكام بكل وضوح ومسؤولية، وبكل قوة ورفق. فوسعت من دائرة التفكير الحر في قضايا الحكم والحاكم والسياسة ووسعت من دوائر اكتساب الثقة ونزع الخوف من القلوب، ووسعت من منسوب الجرأة على انتقاد الحاكمين وسياساتهم من دون الخوف على بيضة إسلام منكسرة غير ملتئمة. لتصبح السياسة جزءا من الدين وبعضا من الشؤون التي تهتم بها الجماعة تصديا للشأن العام ونضالا في سبيل المستضعفين، وحضورا في منتديات الهموم العامة للمواطنين، وتهمما بقضايا الأمة، وبناء للكفاءات، وإعدادا للدراسات، واقتراحا للبدائل والبرامج، وأداء للنصح العام للمسلمين، وبذلا لثمن قول كلمة الحق، وثباتا على قولها، واستعدادا للاستمرار في اقتحام لجّة العقبات الصاعدة إلى ذرى الجهاد بمختلف أنواعه وأشكاله كما يصف ذلك المنهاج النبوي للإمام عبد السلام ياسين.
ديموقراطية أو شورى؟
في قراءتها للديموقراطية تستحضر جماعة العدل والإحسان أهمية اجتناب الغموض المفاهيمي الذي يؤدي إلى الخلط بين مصطلحات ولدت في سياقات تاريخية وبمستندات مرجعية مستنبتة في غير البيئة العربية الإسلامية، كما تستحضر ضرورة امتلاك رؤية نقدية قارئة للتاريخ وللتطبيقات التي عرفتها الديموقراطية في مجتمعاتها الأصلية والتي تكشف عن جملة من الفظائع والفضائح التي ارتكبت باسم الديموقراطية خاصة في مجتمعاتنا المتخلفة التي سيطر فيها الظلم والاستبداد والتسلط والفساد. لكن بمقابل هذا الموقف النقدي تعترف جماعة العدل والإحسان بأن الديموقراطية آلية واجتهاد بشري مهم جدا، وتعد من أرقى ما وصل إليه الفكر الإنساني في تنظيم الخلاف وتدبير الاختلاف وتسيير الدول وبناء النظم والتنظيم. ويمكن الاستفادة منها في بلورة نظام منصف للحكم، والتأسيس للسلطة النظامية القائمة على سيادة القانون واحترام الدستور، والفصل بين السلط، والمشاركة العامة في التدبير، والتأسيس لمفاهيم المواطنة والسيادة الشعبية وضمان حقوق الإنسان وكرامته وحرية التعبير، والمشاركة السياسية والتعددية الحزبية والحقوق العامة سياسيا وثقافيا وتربويا وصحيا وبيئيا.
ومنه، فجماعة العدل والإحسان تقرأ الديموقراطية على مستوى المذهبية التصورية من زاويتين: زاوية المقر المعترف بفضائلها باعتبارها بنية تنظيمية وتسييرية لدواليب الدولة مبنية على التعاقد المجتمعي الذي ينبذ الاستبداد ويرفض غمط الحقوق. ثم زاوية الخلفية الفلسفية التي تجعلها من لوازمها الملتصقة بها اللائكية العلمانية وما أدت إليه من مقالة الفصل بين الدين والدولة، والليبرالية الاقتصادية التي تعلي من معاني المصلحة والربح المادي ومنطق السوق والاستهلاك. ثم تقرأ هذه الديموقراطية من زاوية التنزيل التاريخي الواقعي الذي استعبدت فيه الدول الديموقراطية غيرها من الشعوب المستضعفة فكال المستعمر بمكيالين ونظر بعينين، واستولى على خيرات البلاد التي استعمرها، وساند خلفاءه المستبدين المحليين، ودار مع مصالحه الخاصة منقلبا على كل الشعارات التي يرفعها في كل ناد. وإذا أمكن الاستفادة من الديموقراطية ومن آلياتها التدبيرية ومن صمودها ضد الظلم الأصغر ووقوفها ضد القهر السلطاني، فإنه لا يمكن السكوت عن إقصائها فلسفيا للدين عن الشأن العام، ولا عن صمتها المريب عن معنى الإنسان وحاجاته الروحية، ولا عن إقصائها للتعرض للظلم الأكبر الذي هو الكفر بالله.
في مستوى آخر ترى جماعة العدل والإحسان أن من البلايا التي ابتليت بها الأمة وضيّعت هيبتها الذاتية والخارجية، قتل الشورى في المجتمع الإسلامي وإهدار بنية النظام الشوري الذي أمرنا بإقامته في سياق مرتب ونسق متعاضد يجعل الشورى تتويجا لجملة من الشروط التي ذكرت في سورة الشورى، والتي تدمج عددا مهما من السمات النفسية وجملة من الصفات السلوكية العملية التي تعطي للإنسان معنى وجوديا يدله على حقيقة الدنيا المتاع، ويربطه بأفق الآخرة وما عند الله، ويرسم له منهاجا عمليا للإرادة الصامدة، ويوقظه للاستجابة الدائمة للنداء الرباني، ويلزمه بالعبادة الواصلة الموصلة المنتظمة، ويخليه من الرذائل الفاحشة، ويحليه بالفضائل القيمية، وينمي فيه خلال البذل والتضحية، ويغرس فيه جذوة القومة ضد البغي، لتنتظم حياة الفرد والجماعة وفق نهج لازمته الوعي بالمعنى الوجودي للفرد الإنساني، وقاعدته المحبة والحوار والولاية والنصح والخدمة للمجموع البشري.
تطالب جماعة العدل والإحسان العالم الاستكباري أن يحترم ما خطته مقرراته الدولية، فيبتعد عن التدخل في شؤون الدول وعن مساندة الاستبداد. وتطالب النظام الحاكم بأن يكون منطقيا مع ما سودته “دساتيره الممنوحة”، فيمنح القوى المعارضة مكانها في شمس الديموقراطية المفترى عليها لتعبر بحرية وتشارك بإرادة غير محكومة. وتدعو الفضلاء الديموقراطيين لحوار واضح أمام الشعب وتحت أعينه وبصره للتأسيس لأرضية توافق ميثاقية وبناء جبهة مجتمعية ضد الظلم والاستبداد. وتدعو العلماء إلى الوفاء بعهد البيان الذي أنيط بأعناقهم ليُسمِعوا صوت الدعوة إلى الناس، وتدعو الشعب إلى الثقة بنفسه والسعي لاسترداد حقوقه المهضومة. كل هذا بمنطق تشاركي غير استعلائي وبنفس اقتراحي يبسط يد الرفق للكل للتعاون في حدود المشترك العظيم والكبير الذي يجمعنا هوية وتاريخا ومصيرا.
الأخلاق والقيم
تنطلق جماعة العدل والإنسان من أنه ليس بالتنمية المادية الأرضية المعاشية يعيش الإنسان وحده، وأن التكوين العام للذات البشرية تفرض الاستجابة للحاجيات الروحية والقيمية مع حاجاته العضوية المادية، وأن المجتمع البشري والإنساني عموما محتاج أشد ما يكون الاحتياج للملاذ الأخلاقي والسياسي الذي يجعل لحياته معنى ولوجوده مسرى ومنهجا.
تعي جماعة العدل والإحسان أن خطاب الأخلاق والقيم يجد نفسه محاصرا بسياقات عالية، تتميز بهذا الاكتساح العولمي المادي الطاغي الذي يمضي في الفتك بالمجال الحيوي البيئي للإنسان دون هوادة، ليقتل الغرب الحداثي قيمه التي يكتبها في وثائقه ومعاهداته الدولية وليدخل في دورة حضارية تؤذن بخراب الإنسانية ومُثُلِها، ولتصنع الإنسانية المنكوبة المكروبة الشقية المتسلطة والمتسلط عليها على نحو مبشر بشارة سوء بسقوط مستقبلي للإنسان عموما. كما تعي الواقع المحلي للعبث العام بالمنظومة القيمية للمجتمع المغربي: سياسيا من خلال التمكين لقيم الاستبداد والتسلط والجبر والقهر وقمع الإنسان وحقوقه. اقتصاديا واجتماعيا من خلال فتح الباب للفساد واحتواش المال والهشاشة والمهانة الاجتماعية. إعلاميا وثقافيا عبر التوسيع من دوائر نشر العبث والميوعة والتفاهة والسفاهة والسفالة والطعن في الدين وشرائعه مقابل التضييق على الأخلاق والقيم الفاضلة ومحاصرة الدين وكل ما يمت إليه إلا في حدود ما يسمح التوظيف الخسيس والتوجيه التعيس.
ترى جماعة العدل والإحسان أن هذا الحصار العالمي للمد القيمي، وخاصة إن كان يتشرب من أخلاق الدين الإسلامي، قد ظهرت آثاره الخطيرة على مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية خاصة المدرسة التي غدت وباعتراف التقارير الرسمية مراتع للعنف والانحراف والانتهازية، وكذا الأسرة التي تفشى فيها الانحلال والانتحار وفقدت قدرتها على تحقيق التماسك الذي هو جوهر التماسك المجتمعي. بل إن الجرأة على الأمة وهويتها قد أدت بالنظام المغربي الحاكم إلى استباحة المجتمع للتطبيع مع الكيان الصهيوني بل والتوجه الحثيث نحو التهويد نسأل الله الستر والعافية.
لا يقتضي التحديث ولا تتطلب الحداثة ولا العقلانية عند جماعة العدل والإحسان أن يتم التخلي عن القيم التي تمثل هوية المسلم وتجسد حضارته التاريخية المجيدة، وليس من الضرورة أن تقاس تقدمية وتطورية الفاعلين المجتمعيين عندها بمدى قدرتهم على الانخراط اللامشروط في العالم من دون أصالة ذاتية أو مرجعية مؤطرة، بل إنها في الوقت الذي تعي جيدا ملحاحية الحضور الفاعل في عالم الناس وضرورة التدافع مع مشاريع الاستبداد والتغريب والتمييع تعي أهمية تحصين الذات والمجتمع من كل الاختراقات التي تجعلنا ذيلا تابعا ومقلدا ممسوخا للغير. من هنا تسائل جماعة العدل والإحسان العالم والحداثة، تسائل أمراض الحداثة، وعنف الحداثة، وصدمات الحداثة، بل وتسائل علىى المستوى القيمي والفلسفي أي تصور للحداثة لشقاء الإنسان الغارق في حضاراته وتقدميته التي تشهد على مآسيها ما يقع في بقع العالم التي تدخلها الحداثة الفاتحة؟ تسائل الجماعة هذه العوالم الرقمية الزاحفة التي تسيل علينا للتضليل والتعمية والدعايات واحتكرتها الأيادي المستكبرة لتدخل بها على استعمار جديد للعالم ولقيمه، ما أجوبة الحداثة والفعل العالمي الذي يكيل بمكيالين مما يقع في فلسطين الجريحة، وفي أفريقيا الغارقة في الجهل والتخلف، وفي بلدان العالم التي يحمي فيها اللصوص الكبار اللصوص الصغار؟ وتطرح الجماعة على النظام المغربي تمسحه بالدين، وقيمه الدستورية، وأفعاله في التلفاز والمجتمع والمدرسة والحقل والمصنع. أسئلة الوضوح تطرحها الجماعة: قول وفعل أو خواء وهواء؟
إن جماعة العدل والإحسان إذ تؤكد أنها جماعة توبة ودعوة، إنما تقصد أن تفتح خرقا في جدار الصمت المضروب على الإنسانية والإنسان ليمنعهما من سماع كلمة الخير والحق. وهي بهذا تريد أن يسمع الإنسان خطاب الفطرة المطمورة فيه، وأن يجد العالم فُسحا مديدة من السلام والنصفة والعدل ليجد أهله القاطنون الأرض متسعا لسماع كلام الله، وإدراك أن مدار التنمية الحقيقية يجب أن يكون على تنمية الفرد الإنساني باعتباره ذلك الكائن الأخلاقي الذي على قدر تَغَيُّر نظرته إلى نفسه، وتوظيفه لإمكاناته يتغير الوجود من حوله.
من الثمرات التي يمكننا استفادتها من هذا الذي قيل:
– لقد آن للفرد المسلم أن يسترد الفهم الصافي لمعنى الدين الحقيقي في الإسلام، والذي يعني في معناه الأساسي أن الإنسان عبد لله وحده لا شريك له، وأن الإسلام مراتب متدرجة من مقامات إلى أخرى ترفع همة المسلم ليعرف ربه. وأن الغشاوة التي صنعتها سنوات التربية المضادة للاحتلال الثقافي والاستلاب الاستعماري يجب أن ترفع ليدرك المسلم أن المعنى الغربي اللائكي للدين هو جزء من استراتيجية شيطانية لنزع الجوهر الإنساني من الإنسان، وقتل المعنى في العالم.
– ولقد آن لهذا الفرد المسلم أيضا أن ينزع القدسية عن الحكام الذين تسلطوا عليه باسم الدين منذ عهود العض والجبر، مثلما عليه أن ينزع انبهاره من الجاهلية المستعمرة التي تسلطت عليه باسم التقدم والتطور. وذلك ليفتح له آفاقا جديدة للتفكير الحر المزدوج: أولا خارج دائرة أنه لا وجود لظل رباني إلا بوجود السلطان الوارث المانع للفتنة والحامي للبيضة، وثانيا أن لا تقدم ولا تطور إلا بالتبعية المطلقة للمتقدم هناك خارج أسوار تخلفنا وغثائنا.
– ولقد آن للأمة أن تسترجع سيادتها فتختار حكامها على قواعد الأمانة والكفاءة، وتحاسبهم وتراقبهم بل وتعزلهم إن هم أخلوا بما قُلِّدوه من مسؤولية. وما عليها إن استفادت من الديموقراطية وآلياتها وطرائقها لتدبير شؤونها، والنهوض من كبوتي الاستبداد والفساد لتبتكر لها نموذجها الخاص للحكم العادل الرشيد. وإلا تمسك الأمة بزمام أمورها ظلت قابعة في هوامش ذيلية الانتظارية وانعدام الفاعلية تسام الخسف والذل على يد كل مستكبر سواء كان من بني جلدتها أو من بني غيرها.
– كما أنه آن للقوى الحية في المجتمع المغربي أن تعي جيدا أن من المخاطر الكبرى التي تتهدد البلاد السقوط في انهيار المجتمع بانهيار قيمه وأخلاقه، وأن سقوط الاستبداد والفساد ليس بالمنجز العظيم إن سقط المجتمع وانهارت بنياته الماسكة وأنسجته الجامعة؛ إذ إن التفطن لذلك مقدمة ضرورية لاستكشاف عناصر القوة التي ستشكل أرضية الانطلاقة الجيدة لبناء حلف مجتمعي صامد ضد هذا السعي الهائج المتدفق لتجفيف منابع القيم الفاضلة والأخلاق التراحمية، والذي لن يخلف وراءه سوى القلوب المحروقة والعقول المسروقة والإرادات المهزومة التي لن تجدي معها وصفات الاستصلاح.
وخالص المراد من كل الذي ذكرناه أن جماعة العدل والإحسان تعرض إمكانات تفكير خارج الأطر التي سَيَّجت القدرة التفكيرية للمسلمين منذ عهود إما في دائرة ما يضعه الحاكم المستبد، وإما في حدود ما يفرضه الغرب المستعمر. بينما أرض العقل واسعة لابتكار ما يُصلِحنا ويَصلُح لنا متى انغرس الإيمان في القلوب، وتحررت الإرادة من الخمول والضعف لتجتمع على الكلمة السواء النافعة هنا وهناك.