جوامعُ الكَـلِمِ.. أتبع السيئة الحسنة تمحها (2/3)

Cover Image for جوامعُ الكَـلِمِ.. أتبع السيئة الحسنة تمحها (2/3)
نشر بتاريخ

جوامع الكلم

تعددت دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها أنه أوتِـيَ جوامعَ الْكَلِمِ، حيث يعبر بألفاظ قليلة عن معان غزيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: “الدين النصيحة” و”الدين المعاملة” و”إنما الأعمال بالنيات”؛ أحاديثُ علـى إيجازها صُنفت فـي بيان معانيها وسبْـر دلالاتها كتبٌ ومصنفاتٌ. وفـي صحيح البخاري عن أبـي هريرة رضـي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، وَنُصِـرْتُ بالرُّعْبِ، وبيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنـِي أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرْضِ فَوُضِعَتْ فـي يَدِي” 1؛ خاصية بلاغية وتبليغية كان لها كبير الأثر والتأثير فـي تواصله صلى الله عليه وسلم مع قومه وهم أهل شعر وفصاحة، فالشعْـرُ صنعتُهم أقاموا اهتبالا به المحافل والمواسم.

وصايـا مُعاذيّةٌ

عن أبـي ذَرٍّ جُنْدُب بْنِ جُنَادةَ وأبـي عبْدِ الرَّحْمنِ مُعاذِ بْنِ جَبلٍ رضـيَ اللَّه عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالِقِ الناس بخُلُقٍ حسنٍ” 2، وهذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، حيث اشتملت هذه الوصية الجامعة علـى كل مقتضيات الإيمان: تقوى وتوبة وحسن خلق؛ مقتضيات يروم هذا المقال ملامسة معانيها وقيمتها فـي سلوك العبد إلـى مولاه متشوفا لأعلـى المقامات يوم العرض عليه.

وقبل ذلك وجب التنبيه فـي عجالة إلـى خاصية تركيبية فـي الحديث/الوصية، حيث جاءت فـي صيغة طلبية من خلال أفعال “الأمر” التـي تفيد الإلزام أو الوجوب – كما يرى الأصوليون – ما لم تأت قرينة تخصصُه؛ صيغة أمْريّة ترفع منسوب إجرائية الوصية، وتحض علـى المسارعة لتنزيلها.

فهيّا نتفيأ ظلال الشطر الثانـي من الوصية النبوية لسيدنا معاذ رضـي الله عنه وعن الصحب الكرام بما صحبوا وما نقلوا لأجيال المسلمين من إرث نبوي، ولنا من خلاله رضـي الله عنه: “أتْـبِـع السيئة الحسنة تمحُها”.

 بعد الأمر النبوي فـي الشطر الأول من وصيته بالتقوى، جاء الأمر بإتْباع السيئةِ الحسنةَ، فـي إشارة لطيفة إلـى سلوك لا يقل أهمية عن “التقوى” بل يكمله ويعالج خللها، إنه “التوبة”. فالمؤمن والمؤمنة مهما بلغ منسوبهما من الاستقامة قد يقعان إن لم يكن فـي الذنب فلا أقل من التقصير ومنه الغفلة، ومن تمام الاستقامة ومقتضياتها لزوم التوبة، كيف لا، وقد كان الصحابة يعدّون للمعصوم صلوات الله عليه قوله ﷺ مائة مرة في المجلس الواحد: “ربِّ اغفر لي وتُبْ عليَّ إنك أنتَ التوابُ الغفورُ “. عن عبد الله بن عمر رضـي الله عنهما: “إن كُنَّا لنَعُدَّ لرسولِ اللهِ ﷺ فـي المجلسِ يقولُ: ربِّ اغفر لي وتُبْ عليَّ إنك أنتَ التوابُ الغفورُ مائةَ مرة” 3.

1.    إتْباع السيئةِ الحسنةَ مؤشـر علـى يقظة القلب بعد أي غفلة أو تقصير فـي حق الله أو فـي حق النفس أو فـي حقوق العباد، فيأتـي حسنةً تكفر ما بدر من السيئات. يقول الحق سبحانه: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَـيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ(سورة هود: 114). عن أيوب الأنصاري رضـي الله عنه أن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ كُلَّ صَلاةٍ تَحُطُّ ما بيْنَ يَدَيْها من خَطيئة” 4.

وقوله صلى الله عليه وسلم “أتْبِع” تفيد وجوب المسارعة تفاديا لتراكم الذنوب والغفلات فتصعب التوبة. عـن أبـي هريرة رضـي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ المؤمنَ إذا أذنب ذنبًا كانت نُكتة سوداء فـي قلبِه، فإن تاب، ونزع، واستغفر صقَل منها، وإن زاد زادت حتّـى يُغلَّفَ بها قلبُه، فذلك الرَّانُ الَّذي ذكر اللهُ فـي كتابِه: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ” 5.

“التوبة” إذن من خلال الوصية النبوية يراد أن تغدوَ سلوكا يوميا بل لحظيا، إقرارا من المؤمن والمؤمنة بالتقصير فـي جنب الله مهما بلغت درجة الاستقامة، ثم إن التوبة من حيث الباعث نوعان: توبة خوف من العقاب وتوبة حياءٍ من الله عز وجل. وما أبعد المسافات الضوئية بينهما. و”التوبة” من حيث المُخرجات درجات، كما يقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام: “فشتان بين التائب من الزلات، وبين التائب من الغفلات، وبين التائب من رؤية الحسنات” 6.

وكما أن السيئات تتعدد صورها ومظاهرها، فقد تكون كلمة أو نظرة أو سوء ظن قبل أن تكون سلوكا ماديا يَطال المال والجسد والعِرض، كذلك الحسنات تتنوع فقد تكون ابتسامةً أو إفشاءَ سلام أو إماطة أذى من طريق أو حسن ظن بالناس أو تفريج كربة أو سيرا فـي قضاء حاجة إنسان أو صدقة؛ حسناتٌ تثمر من الثواب، بعد صلاحـيْ النية والاقتداء، بقدر الأثر والتأثير نوعا وكمّا فـي النفوس والمحيط؛ حسناتٌ تمحو ما صدر من سيئات أو تقصير أو غفلات فيما يشبه العلاقة الجدلية بين عنصـريْ الخير والشـر المتفاعلين فـي النفس اعتبارا للطبيعة البشريـة، لذلك فخيرُ الخطائين التوابون. عن أبـي هريرة رضـي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “والذي نفسـي بيده لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يُذنبون، فيستغفرون، فيُغفر لهم” 7.

و”التوبة”كــــــــ”التقوى” مفهومان مركزيان فـي السلوك والتربية الإيمانية يؤكد ذلك الحضور الكثيف للمفهومين فـي القرآن الكريم كما فـي السنة النبوية العطرة، يُفهم من ذلك أن الله تعالـى كما تعبدنا بالاستقامة والتقوى، فقد تعبدنا بالتوبة والاستغفار إقرارا منه جل وعلا بضعفنا وما يعترينا من فتور بعد نشاط. عـن عبد الله بن عمرو رضـي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ لِكُلِّ عملٍ شِرَّةً، ولِكُلِّ شِرَّةٍ فترةٌ، فمنْ كانت فترتُهُ إلى سنتـي فقدِ اهتدى، ومَنْ كانَتْ إِلـى غيرِ ذَلِكَ فقدْ هَلَكَ” 8. ويكفـي التائبين مقاما أنهم ممن يحبهم الله تعالـى، بل إن الله جل فـي علاه أشدُّ فرحا بعبده التائب. عـن أنس بنِ مالك رضـي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتـَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فـي ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ” 9.

اللهم اجعلنا من التوابين المستغفرين آناء الليل وأطراف النهار. والحمد لله رب العالمين.

 
 


[1] رواه الشيخان.
[2] رواه الترمذي.
[3] رواه أبو داود والترمذي.
[4] رواه الطبراني وغيره.
[5] رواه الترمذي والنسائـي وابن ماجة.
[6] عبد السلام ياسين، الإحسان، ج1 ص:121.
[7] رواه مسلم.
[8] رواه أحمد وابن حبان والطبرانـي.
[9] رواه البخاري والبيهقـي.