بعد عملها خمس سنوات في إحدى القرى المجاورة، استقرت لبنى في قلب المدينة الجديدة، واقتنت شقة في عمارة حديثة، قرب مقر عملها، لم تألف لبنى حياة الغربة بين سكان العمارة، فلا يكاد يكون اللقاء بين الجيران إلا في المصعد، الكل يسكنه خوف من التعامل مع الجيران، وكانت هي تحن دائما إلى ما عاشته في القرية التي نزلت بها في بداياتها مع الوظيفة، وأيضا خطواتها الأولى في الزواج، وأثناء غربتها الأولى عن حضن أسرتها، حيث وجدت في جاراتها نعم السند، ونعم الأسرة، بل عرفت معهن معنى الكرم في المشاعر والفيض في العطاء بلا مقابل أو انتظار الجزاء، عاشت معهن بساطة المأكل والمشرب والعيش، لكن البذخ كان في سعة الصدر، والترف في الرغبة في تقديم المساعدة. لم تعرف معنى الغربة، ولم تلجئ والدتها للمكث معها طويلا، حتى حينما رزقت بطفلها الأول كانت الجارات الحاضنات الراعيات، بمحبة وإحسان نادر، وهذا لم يكن جديدا على قرية يفتح الواحد بيته لضيوف جاره في الفرح وفي الترح، ويدعم الجار جاره ويسانده عند المرض، وفي العسر، ويتقاسم معه المسكن والملبس والكسرة، حتى يتجاوز المحنة ويقوم من جديد. قرية بسيطة في شكلها، عميقة في قيمها وأخلاق أفرادها، فطرة سليمة لم تلوثها مكدرات الحضارة والمدنية الحديثة داخل المدن الصناعية المكتظة بالسكان، المترفة في المادة، الفقيرة نوعا ما إلى هذه الأشكال من العيش المتضامن.
حاولت لبنى أن تربط علاقة مع جارتها بالجنب “صوفية”، من خلال تبادل التحية الصباحية والمسائية، وتبادل الزيارة عند الأعياد الدينية، فنجحت في أن تكسب ودها، وأن يتفقا على برنامج لحفظ القرآن الكريم، ونفذا من البرنامج حصتين، لكن شاء القدر أن يمرض زوج صوفية، فتضطر لمصاحبته إلى المصحة ليبدأ رحلة العلاج.
كانت لبنى نعم الجارة المساندة، فبذلت جهدها لتقف إلى جنبها من خلال مساعدة ابنتها التي مازالت تلميذة في الثانوي، وهي الوحيدة التي بقيت معها بعدما سافر أبناؤها الثلاثة إلى مدن مختلفة من المغرب من أجل العمل.
في صبيحة أحد أيام السبت وهو يوم عطلة بالنسبة للبنى، تفاجأت بطرق خفيف على الباب بعد الفجر، فعرفت أنها ابنة الجارة، تطلب منها أن تجيب أمها في الهاتف، فقد فشلت في التواصل معها، بحيث تجد هاتفها مشغولا.
وضعت الفتاة مفاتيح بيتهم في يد لبنى نزولا عند طلب أمها، واستأذنت جارتهم للذهاب إلى المدرسة. أحست لبنى بأمر مريب مخيف، فودعت الفتاة، ودخلت إلى بيتها، وحاولت الاتصال بجارتها صوفية، بعدما شغلت هاتفها الذي اعتادت على إغلاقه ليلا، فكانت صدمتها، حينما أخبرتها جارتها، أن زوجها قد أسلم الروح لبارئها بعد منتصف الليل، وأنها منهمكة في الإجراءات، وقد أخفت الأمرعن ابنتها لأنها ستجتاز امتحانا في ذلك الصباح.
تعطل الكلام، وتعثرت العبارات، ولم تجد بدا من أن تتمالك نفسها، فأدت واجب التعزية، ووضعت نفسها وبيتها رهن خدمة جارتها المكلومة.
لم يكن للجارة صوفية طلبات، سوى أن تساعدها لبنى في تهيئة البيت لاستقبال الجنازة، واستقبال المعزين، فأولادها في الطريق والعائلة أيضا، والجنازة ستكون ظهرا.
لفت الدنيا بلبنى، ولم تستوعب الأمر؛ الإعداد للجنازة ليس أمرا سهلا، بدأت بتهيئة البيت وتنظيفه، وأثناء ذلك كانت تتداعى أمامها صور التضامن في القرية، وكيف تفتح كل الدور للمعزين أكلا وشربا ومبيتا. أجمعت أمرها بعد تفكير طويل، وقررت أن تبادر هي لتكسر جليد فتور العلاقات بين الجيران، فإن أفلحت فيكون لها أجر تدفق نهر التواصل بين الجيران، وإن خاب مسعاها فإن الله لن يضيع أجرها. دعت الله أن يسدد خطاها، وتوكلت على الله، وطرقت باب الجارة التي في الطابق الأول، وأخبرتها بالأمر، فتعاطفت، وأبدت استعدادها لمساعدتها في الأمر، ولم تمر ساعة حتى كان كل الجارات مجتمعات في بيتها، فقررن أن يساهمن في تهيئة وجبة الغذاء، وتهيئة ملابس الأرملة، والاستعداد بما اعتاده المغاربة في مثل هذه المواقف، وتطوعت إحدى الجارات لإحضار البنت من المدرسة بعد إنهائها الامتحان، وتهيئتها لاستقبال الخبر المفجع.
ما كادت العاشرة والنصف صباحا تصل حتى بدأت وفود المعزين تتقاطر، وكان الجيران رجالا ونساء في الخدمة والاستقبال، وقد ساعد على ذاك أن تزامنت الجنازة مع عطلة نهاية الأسبوع، ففتح الجيران جيوبهم وقلوبهم وبيوتهم، فخصص بيت للرجال المعزين وبيت آخر للمعزيات من النساء، ودخلت الجنازة، وتلي القرآن وودع الأهل والأقارب ميتهم، بعدما ألقوا عليه نظرة الوداع الأخيرة. كانت الأرملة “صوفية” بين شعور بالدهشة، وإحساس بالمساندة، وتفاجؤ بهذه الالتفاتة الحانية الإنسانية التي تعكس قيم المسلمين، وتصور سمو أخلاق جيران المرحمة في أحلك الظروف وأقساها. لقد خففت هذه الالتفاتة من شدة الوجع وألم الفقد، وتسجلت هذه المشاهد الخيرة في تاريخ هذه العمارة التي عادت لها الحياة من جديد منذ هذه الجنازة، وعاد الإحساس بالأمان بين الجيران، واطمأن بعضهم لبعض، بعد أن خبروا معدن بعضهم في هذا الظرف العصيب.
لقد أحيت مبادرة لبنى الحياة في العلاقات بين الجيران، وكشفت عن معدنهم الطيب، وأنهم كانوا فقط بحاجة إلى من ينقب بين الخبايا عن الأصالة والعراقة في تعاملهم وفي سمو أخلاقهم. لم تلم لبنى الجيران على انعزالهم، ولم تقل لماذا لم يبادروا هم، ولكنها اقتحمت جدارا كان جليديا فقط، احتاج إلى حرارة لتذيبه، لتعود الحياة الطيبة بين جيران هم رحمة في السراء والضراء.
فما أحوجنا إلى المبادرة التي تعيد العلاقات الطيبة بين الجيران في حدود الحكمة والأدب في التعامل مع الجيران.