لقد عني الشارع بالنفس الإنسانية ووضع لها من التشريعات ما يكفل لها الوجود والاستمرار وما يحقق لها جميع المصالح في جميع الأطوار من غذاء وكساء وملبس ومسكن، وما يمنع عنها الاعتداء بأي صورة، وشرع من العقوبات ما يكون زاجرا ورادعا لمن يعتدي عليها؛ والزاجر قد يكون عقابا في الدنيا أو ترهيبا من عذاب الآخرة. فقد خلق الله الإنسان وفضله على باقي خلقه بأن حباه نعمة العقل والعلم والنطق والبيان وحسن الصورة والشكل، وشمله بالرعاية والعناية في جميع أطوار نموه منذ أن كان نطفة في الرحم إلى أن صار خلقا آخر، وسخر له ما في الأرض جميعا لخدمته، وأنزل له الكتب لإرشاده وهدايته إلى مصالح الدارين، وهذا كله وغيره دليل على المكانة التي يحظى بها الإنسان في هذا الكون، لذلك وضع الله تشريعات تكفل له وجوده وتحفظ له نفسه.
وحفظ النفس حاصله في ثلاثة معان هي: “إقامة أصله بشرعية التناسل وحفظ بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود من جهة المأكل والمشرب والملبس والمسكن وجميع هذا مذكور أصله في القرآن ومبين في السنة، ومكمله ثلاث أشياء: وذلك حفظه عن وضعه في حرام كالزنا، وحفظ ما يتغذى به أن يكون مما لا يضر أو يقتل أو يفسد، وإقامة ما لا تقوم هذه الأمور إلا به من الذبائح والصيد وشرعية الحدود والقصاص ومراعاة العوارض اللاحقة وأشباه ذلك” [1].
وحفظ النفس يكون من جانبين: جانب الوجود وجانب العدم. وحفظها من جانب الوجود له معنيين؛ حفظ باطن وآخر ظاهر، أما حفظ الباطن فيقصد به تزكيتها وتطهيرها وتأديبها وتطهيرها، لأن سعادة العباد في الحياة الدنيا والأخرى موقوف على هذا، كما أن شقاءها منوط بفسادها وتدسيتها وخبثها، قال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس، الآيات: 6-10]، وما يطهر به المرء نفسه دوام الاتصال بمولاها واستحضار معيته والإكثار من ذكره، وما يدسي به نفسه اقتراف المعاصي والبعد عن الله، فالمرء مسؤول عن نفسه، قال تعالى: وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر، الآية: 18]، فالنفس مطالبة صاحبها بحقها في الدنيا وسائلة له يوم القيامة عما فعل بها في الدنيا، وحقها يكمن في غذائها الروحي المستمد من روح الله ـ أصل الروح ـ وغذائها المادي المستمد من تراب الأرض ـ أصل الجسد ـ. أما حفظ الظاهر فيكمن في إقامتها بالطعام والشراب والملبس والمسكن والرياضة والعلاج.
فحفظ النفس يبدأ في المرحلة التي يكون فيها منعدما في الوجود، حيث حدد الله لحفظه مسؤولية الآباء عن الأبناء وذلك بمشروعية عقد النكاح وتحريم الزنا، فبمقتضى هذا العقد يلتزم الآباء بالقيام على شؤون أولادهم من نفقة مباشرة أو غير مباشرة، ومن رعاية وعناية في حفظهم وتربيتهم إلى أن يبلغوا أشدهم ويتولوا شؤونهم.
بعد هذه المرحلة تأتي المرحلة الجنينية التي تستوجب رعاية الحامل صحيا ونفسيا وعاطفيا، وتوفير سبل الراحة لها مع التغذية السليمة، كما يجب إبعاد أسباب القلق والاضطراب عنها، واجتناب كل ما يمكن أن يعود على الجنين بالضرر أو يؤثر على مسار نموه، وقد التزم المسلمون برعاية الحبلى ومساعدتها حتى كان من أحباس بعض المدن أن تعطي المرأة التي تمر مرحلة الوحام ما تشتهيه في السوق بدون مقابل، وقد شرع الإسلام لضمان استمرار نمو الجنين الإنفاق على الحامل، قال تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق، الآية: 71]، كما أباح الفطر للمرأة الحامل إذا خافت على جنينها، ولا يجوز إسقاطه تحت أي ظرف من الظروف إلا أن يكون في بقائه خطر على نفس الأم، وفي هذا حفظ لنفسها هي.
هكذا تكون التشريعات الإلهية حققت ضمانات لحفظ النفس منذ بدء خلقها نطفة وفي جميع أطوار الضعف والحاجة إلى أن يبلغ أشده، ويستطيع الاعتماد على نفسه في تحصيل مطالب الحياة، وبذلك توضع عليه المسؤولية دون والديه ليواجه الحياة، وعندما يصل هذه المرحلة يصير مكلفا مسؤولا أمام الله، وتجد ما قد وضع له من الأحكام والقواعد والمبادئ التي تهديه سواء السبيل في تحصيل مصالح الآخرة ومطالب الدنيا ومنافعهما، فبين له ما يضره فحرمه وما ينفعه فأحله، كما جعل الله التشريع مبني على قاعدة التيسير على العباد ورفع العنت عنهم بشرع الرخص دفعا للمشقة؛ من ذلك إسقاط الجمعة والحج والجهاد بالأعذار، وخفف على المكلفين بإبدال الوضوء والغسل بالتيمم، والقيام في الصلاة بالقعود والاضطجاع… إلى غير ذلك مما خفف الله به على المكلف دفعا لما يلحقه من مشقة وحرج بحيث لا تصل المشقة إلى درجة الخوف من الهلاك أو فوات الأطراف أو فوات منفعة من منافعها.
لذلك جاءت القواعد الأصولية (الضرورة تبيح المحظورات ـ المشقة تجلب التيسير)، فكل خوف من الضرر على النفس أو هلاكها يبيح استعمال الممنوع من المأكل والمشرب والملبس، أو ترك واجب أو تأخيره.
هذا ما يخص حفظ النفس من جانب الوجود، أما ما يخص حفظها من جانب العدم؛ فقد اقتضت حكمة الله أن يزجر كل من تطاول ظلما على أخيه الإنسان، فحرم قتل النفس بغير حق واعتبر هذا الفعل من أعظم المفاسد على ظهر الأرض، ومن أكبر الك
بائر وأنكر المنكرات بعد الشرك بالله، لذلك نجده قد فرض عدة عقوبات دنيوية وأخروية، وحتى في شرعه للقصاص حياة للنفوس قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة، الآية: 177]، وزجر لكل من سولت له نفسه قتل أخيه أو الاعتداء عليه بالضرب أو الشتم أو القذف أو قطع العضو.
وتكون المرأة المسلمة هي المسؤولة الأولى عن حفظ هذه النفس باعتبار أن المرحلة الجنينية إنما تكون في رحم الأم، وهذا يحتم عليها الاعتناء بجنينها عناية خاصة، وأن تحرص أشد الحرص إلى أن يخرج إلى الوجود سليما معافى، ويستمر كذلك في مرحلة الرضاع وذلك بإرضاعه من حليبها الرضاعة الطبيعية نظرا لأهميتها لصحة الابن رجل الغد، بعد ذلك تعود طفلها على العادات الصحية في تناول الطعام من حيث تنوعه وكميته وترقيته وغناه، كما تعلمه آداب المأكل والمشرب والملبس، وتربط ذلك كله بذكر نعم الله عليه وتفضله بالرزق مساهمة منها في تقوية علاقته بالله عز وجل، وتحبب له الحلال الطيب وتكره إليه الحرام الخبيث.
كما يجب عليها أن يكون لها حد أدنى من الوعي الصحي ومن الوسائل الوقائية للحفاظ على صحة الولد، وذلك بتعويده على ممارسة الرياضة والألعاب، وعلى الأخذ بأسباب التقلل، والحرص على عدم ظلم نفسه، قال ابن تيمية: “ظلم العبد نفسه يكون بترك ما ينفعها وهي محتاجة إليه، وبفعل ما يضرها… والنفس إنما تحتاج من العبد إلى فعل ما أمر الله به، وإنما يضرها فعل ما نهى الله عنه، فظلمه لا ينفك عن ترك حسنة أو فعل سيئة، وما يضطر العبد إليه حتى أكل الميتة داخل في هذا فأكلها عند الضرورة واجب… وكذلك ما يضرها من جنس العبادات، مثل الصوم الذي يزيد في مرضها، والاغتسال بالماء البارد الذي يقتلها…) [2].
فصحة الأبدان ووقايتها من الآفات والأمراض جزء من مسؤولية الأم المسلمة، وأمر أكدت عليه الشريعة الإسلامية؛ حيث دعت إلى بناء الصحة الجسمية والنفسية حتى يكون المسلم سويا قويا في تقديم النموذج الأمثل، كما نهى عن كل ما يضر بها من مخدرات وخمر وكافة المهلكات حتى يكون المسلم سليما من الأمراض والأوبئة. وهناك قواعد صحية نستنبطها من مجموعة من النصوص القرآنية والحديثية منها:
– التركيز على الجانب الوقائي في الصحة واعتباره الأهم في سلامة الإنسان؛ كتجنب الإسراف في المأكل والمشرب، وتجنب الأمراض المعدية. قال صلى الله عليه وسلم:
“الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو على من قبلكم فإن سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه” [رواه البخاري ومسلم]. فيجب على الأم أن تكون على دراية تامة بأهمية التلقيح ضد الأمراض، وأن لا تهمله تحت أي ظرف من الظروف.
– الاهتمام بعلاج أمراض القلوب ومداواتها كالهم والحزن والغضب، وذلك لعلاقتها الكبيرة بأمراض الأبدان، وهو ما يسمى اليوم بالصحة النفسية. جاء في الدعاء المأثور عن الحبيب صلى الله عليه وسلم: “اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل…”، فيجب على الأم أن تعمل على تقوية الجانب النفسي والروحي لأبنائها بتعويدهم على الطاعات والنوافل وذكر الله ودعائه والتوكل عليه والإيمان بقضائه وقدره.
– الاهتمام بنظافة البيئة والجسم، قال عليه الصلاة والسلام وهو يمر على قبرين: “إنهما يعذبان ولا يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة” [رواه مسلم]. فالأم واجبها الاعتناء بهذا الجانب عناية خاصة، فتربي أطفالها على أن الطهور شطر الإيمان.
– الاهتمام بالرياضة والحركة اللازمة للجسم والتي هي من أسباب صحة الأبدان، ويتحقق جزء كبير من هذه الفائدة من خلال الشعائر التعبدية أولا، ومن خلال الألعاب الرياضية ثانيا. وقد مر رسول الله على مجموعة من الشباب يتدربون على الرمي فقال لهم عليه الصلاة والسلام مشجعا: “ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا” [رواه البخاري]، وقال عمر رضي الله عنه: “علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل”.
وأخيرا أقول قول شيخ الإسلام: “ينبغي للمؤمن أن يفرق بين ما نهى الله عنه من قصد الإنسان قتل نفسه، أو تسببه في ذلك، وبين ما شرعه الله من بيع المؤمنين أنفسهم وأموالهم له…” [3]، وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَشۡرِی نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ [البقرة، الآية 205].
[1] نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي لأحمد الريسوني، ص 156.
[2] مجموعة الفتاوي لابن تيمية، ج 25، ص 281.
[3] نفس المصدر.