الحدث الثالث في سلسلتنا وقع في رمضان من السنة الثانية للهجرة، واستلزم إنزال سورة بكاملها لتقويمه وتصحيحه، إنه خلاف المؤمنين في الأنفال بعد معركة بدر.
لا أحد يجهل قيمة غزوة بدر وما أحدثته يومها في الإسلام، فهي من أعظم أيام الله ونعمه على الإسلام والمسلمين؛ أعز الله فيها الحق وأذل الباطل وأيد فيها سبحانه المسلمين بجنود من عنده لم يتوقعوها، منها:
– الملائكة: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال: 9].
– الرعب: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [الأنفال: 12].
– النعاس والمطر والطمأنينة: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال: 11].
وغيرها من مظاهر تأييد الله عز وجل للمسلمين.
وكل من حضرها من المسلمين شهد له بالفضل؛ فعن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه، وكان أبوه من أهل بدر، قال: “جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم، قال: من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة” [1].
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: “… وما يدريك؟ لعل الله أن يكون قد اطَّلَع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم” [2].
إلا أن الصحابة رضي الله عنهم أحدثوا بعد بدر ما كان السبب في تنزل سورة الأنفال.
ويلخص لنا الصحابي الجليل عبادة بن الصَّامت الحدث حين سُئِلَ عن سورة الأنفال في قوله: “فينا معشر أصحـاب بدرٍ نزلت حين اختلفنـا في النَّفل، وساءت فيـه أخلاقُنا، فانتزعه الله – تبـارك وتعالى – من أيدينا، فجعلـه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمـه رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا عن بواءٍ. يقول: على السَّواء” [3].
أما سبب الخلاف فبدأ كالتالي: عن عبادةَ بن الصَّامت رضي الله عنه قال: “خرجنا مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فشهدت معه بدراً، فالتقى النَّاس، فهزم الله – تبارك وتعالى – العدوَّ، فانطَلَقَتْ طائفةٌ في آثارهم يَهْزِمون ويقتلون، وأكبَّت طائفةٌ على العسكر يَحْوُونه، ويجمعونه، وأحدقت طائفةٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا يصيب العدوُّ منه غِرَّةً، حتَّى إذا كان اللَّيل، وفَاءَ النَّاسُ بعضُهم إلى بعضٍ. قال الَّذين جمعوا الغنائم: نحن حَوَيَنْاها، وجمعناها؛ فليس لأحدٍ فيها نصيبٌ. وقال الَّذين خرجوا في طلب العدوِّ: لستم بأحقَّ بها منَّا؛ نحن نَفَيْنا عنها العدوَّ، وهزمناهم. وقال الَّذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: لستم بأحقَّ بها مِنَّا؛ نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وخِفنا أن يصيب العدوُّ منه غرَّةً، واشتغلنا به. فنزلت: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال: 1]؛ فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فُوَاقٍ بين المسلمين” [4].
إن هؤلاء المختلفين في الأنفال (الدنيا ومتاعها) هم أنفسهم الذين كانوا قبل المعركة يشتاقون للجنة ويزهدون في الدنيا. روى مسلم عن أنس: “أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال يوم بدر: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم، قال: بخ بخ، فقال: ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها، فأخرج تمرات فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة، فرمى بالتمرة ثم قاتل حتى قتل”.
وهم أنفسهم الذين رفع رسول الله يده إلى السماء يدعو لهم قبل المعركة: “اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِيَاعٌ فَأَطْعِمْهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ”.
فلما وقع بينهم هذا الخلاف وسألوا رسول الله لم يجبهم حتى نزل القول الفصل من رب العالمين، فأنزل سورة الأنفال التي تبدأ بقوله سبحانه (يسألونك عن الأنفال)، والذي لم تأت الإجابة عنه إلا بعد أربعين آية من التوجيه والتصويب؛ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41).
يقول سيد قطب: “ولقد يدهش الإنسان حين يرى أهل بدر يتكلمون في الغنائم وهم إما من المهاجرين السابقين الذين تركوا وراءهم كل شيء، وهاجروا إلى الله بعقيدتهم، لا يلوون على شيء من أعراض هذه الحياة الدنيا. وإما من الأنصار الذين آووا المهاجرين، وشاركوهم ديارهم وأموالهم، لا يبخلون بشيء من أعراض هذه الحياة الدنيا، أو كما قال فيهم ربهم: يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.. ولكننا نجد بعض التفسير لهذه الظاهرة في الروايات نفسها. لقد كانت الأنفال مرتبطة في الوقت ذاته بحسن البلاء في المعركة، وكانت بذلك شهادة على حسن البلاء، وكان الناس يومئذ حريصين على هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الله سبحانه وتعالى، في أول وقعة يشفي فيها صدورهم من المشركين! … ولقد أخذهم الله سبحانه بالتربية الربانية قولا وعملا. نزع أمر الأنفال كله منهم ورده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنزل حكمه في قسمة الغنائم بجملتها، فلم يعد الأمر حقا لهم يتنازعون عليه إنما أصبح فضلا من الله عليهم يقسمه رسول الله بينهم كما علمه ربه… وإلى جانب الإجراء العملي التربوي كان التوجيه المستطرد الطويل، الذي بدأ بهذه الآيات، واستطرد فيما تلاها كذلك” [5].
ومن أهم الآداب التي ركزت عليها السورة، والتي أعد الله بها قلوب المؤمنين لتقبل حكمه وتشريعه في الأنفال:
1- تقوى الله: يقول سيد قطب: “لقد كان الهتاف لهذه القلوب التي تنازعت على الأنفال، هو الهتاف بتقوى الله.. وسبحان خالق القلوب العليم بأسرار القلوب.. إنه لا يرد القلب البشري عن الشعور بأعراض الحياة الدنيا، والنزاع عليها… إلا استجاشة الشعور بتقوى الله وخوفه وتلمس رضاه في الدنيا والأخرى.. إن قلبا لا يتعلق بالله، يخشى غضبه ويتلمس رضاه، لا يملك أن يتخلص من ثقلة الأعراض… وبهذا الزمام يقود القرآن هذه القلوب إلى إصلاح ذات بينها”.
2- الوحدة وإصلاح ذات البين: إنّ من أهم أسباب القوة والمنعة لأي مجتمع أو كيان هو الوحدة بين أفراده والترابط بين جماعاته، ذلك أن التفرق والاختلاف والتنازع يوهن القوة ويضعفها ويفضي إلى انهيار المجتمع وسقوطه، ومن ثم نلحظ في القرآن والسنة تأكيدًا كبيرًا على أهمية الوحدة والترابط بين المسلمين، ففي القرآن العديد من الآيات التي تؤكد على أهمية الاتحاد، ومن ذلك قوله تعالى في السورة نفسها: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [6]، وقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [7].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا. فيرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا، ولا تَفرَّقوا. ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال” [8].
فاللهم ألف بين المسلمين، ووحد كلمتهم، واسلل سخائم قلوبهم. والحمد لله رب العالمين.
[1] فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرا، حديث رقم 3771.
[2] من حديث طويل رواه سيدنا علي بن أبي طالب، أخرجه البخاري (4890)، ومسلم (2494).
[3] مسند الإمام أحمد، ج 5، ص 322.
[4] المصدر نفسه، ص 324.
[5] في ظلال القرآن، ص 1473.
[6] الأنفال، 46.
[7] آل عمران، 103.
[8] رواه مسلم.