لا تكاد تخلو كتب التاريخ المتحدثة عن مكانة المرأة العربية في المجتمع الجاهلي من سرد معاناة الإماء آنذاك؛ منهن من دفنت حية وهي صبية مخافة جلب العار، ومنهن من قهرت وبيعت وظلمت من طرف ولي أمرها وأهلها خصوصا ومن عشيرتها عموما، إنها الصفحة المظلمة لواقع مرير لسنا بصدد الحديث عنه الآن.
نريد تسليط الضوء هنا على الصنف الآخر، والصفحة المشرقة من تاريخ المرأة العربية الحرة، التي استطاعت بعد البعثة النبوية أن تهب للأمة الصحابي والمجاهد.
كما لم تبخل حقبة ما قبل الإسلام عن تقديم نماذج لنساء طيبات الأخلاق والمكارم، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه البيهقي في السنن: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، فقد عرف المجتمع الجاهلي -والمرأة العربية جزء منه- أخلاقا حميدة وأخرى فاسدة جاءت الشريعة المحمدية لإصلاحها.
لعبت المرأة الحرة دورا كبيرا في زمن السلم والحرب، فكانت موضع تقدير من العشيرة، بل إن من الزعماء من لم يتحرج من انتسابه لأمه، حيث عرفت قبائل كثيرة بأسماء أمهاتها: بنو رقية، بنو مزينة، بنو مدركة…
فالمرأة الحرة في الجاهلية كانت غير مهملة، فهي تمتلك المال ولها حق التصرف فيه، ومن أبرز هذه النماذج السيدة خديجة بنت خويلد؛ التي كانت ذات منصب ومال فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة تستعين به للمتاجرة في مالها.
كما احترفت المرأة الحرة أيضا تقويم الرماح والتجارة والرضاع إلى جانب أعمالها المنزلية من كنس وطهي وحلب ورعي، وخرجت في الحروب تشارك في القتال وتشجع المقاتلين وتبعث الحماسة وتنشد الأشعار وتساعد في السقاية وإسعاف الجرحى.
حفظت لنا كتب التاريخ والسير أسماء العديد من النساء قبل الإسلام، وما كان لهن من عظيم أخلاق، نذكر منهن هند بنت عتبة الشاعرة الفصيحة التي اشتهرت بشجاعتها وبأسها وترفعها عن الفحشاء. عن عائشة رضي الله عنها قالت جاءت هند بنت عتبة تبايع فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أبايعك على ألا تشركي بالله شيئا ولا تسرقي ولا تزني” قالت: “أوتزني الحرة!؟” قال: “ولا تقتلي ولدك” (أخرجه ابن سعد بسند صحيح). تعجبت السيدة هند لما استشعرت من عظيم الفعل الذي كان مستقبحا من طرف المجتمع كله.
وقد ذاع صيت حاتم الطائي بكرمه وعطائه لأنه ارتضع ذلك لبنا من والدته، إذ نشأ في أكناف بيت يضرب به المثل في العطاء، فقد روي عن أمه أنها كانت ذات مال وغناء؛ حجر عليها أهلها ومنعوها التصرف فيما ملكت مخافة الإسراف والتبذير، فأخذ حاتم ذلك الخلق من أمه، وتطبع بطبعها في زمان لم يدانيها أحد في العطاء.
فالكرم والسخاء صفات لسمو النفس، جاء في المعاجم: “كرم السحاب نزل غيثا”، والكرم من السجايا الأصيلة عند العرب اشتهرت به بين القبائل.
كما تحلت المرأة الحرة العربية بالحياء والاحتشام، وهو خلق يبعث على ترك القبائح. عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: “كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها” (رواه البخاري). قال ابن حجر: “خدرها: ستر يكون للجارية البكر في ناحية البيت”. والمقصود هنا تشبيه حياء النبي عليه السلام بحياء الجارية البكر في ظهور علامات الحرج من احمرار الوجه والانفعال.
كما اقترن الحياء بخفض الصوت احتراما للمخاطب وصونا لكرامته حرصا على تمثل الضوابط السلوكية، فالغض من الصوت سمة من سمات صدق القصد في الحديث والثقة بالنفس في مقابل رفع الصوت الدال على الحدة والغلظة.
جاء في كتاب مجمع الأمثال للحارث بن سليل الأسدي: “تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها”. وهذا دليل آخر على ما كانت عليه المرأة الحرة من عزة نفس وترفع وعفة.
فالأخلاق الفاضلة وجدت مع الإنسان فطرة وسلوكا ورثتها الأجيال وجبلت عليها الأمم، وليست وليدة الشرائع السماوية أو حكرا على التعاليم الدينية.
فحري بالمرأة المؤمنة المعاصرة أن تتصالح مع فطرتها وتتخلق بما تخلقت به نظيرتها العربية الحرة من كريم الأخلاق وعظيم السجايا.
قال النبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم: “إنَّ أكملَ -أو من أكملِ- المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلقًا” (رواه الترمذي). فالإسلام جاء ليعزز ويتمم مكارم الأخلاق.
وحسن الخلق أقصر مسلك تصل به المؤمنة إلى قلوب الخلق وهي المأمورة بتبليغ رسالة الإسلام.