حصار أمة بداية التمكين

Cover Image for حصار أمة بداية التمكين
نشر بتاريخ

ما أشبه حصار غزة في معركة طوفان الأقصى، بحصار رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بشِعب أبي طالب، وكأنه حدث مفصلي في تاريخ أمة، يعيد ذكرى معاناة المسلمين الأوائل للذاكرة، وكأن استحضار صور بكاء الأطفال من شدة الجوع في عصر الإسلام الأول، تعود لتشكل ملحمة نضالية من أجل البقاء لأهل غزة، وبأنها مرحلة سابقة للتمكين للأمة.

هي نقطة تحول في مسار أمة، بالمدة الزمنية المحصورة بين بداية شيء وانتهائه، تتشابه فيها الكثير من الوقائع؛ تتمثل أولا في تكتل قوى الظلم في الصف الواحد، وتذكرنا ثانيا؛ كي لا ننسى أن أصحاب الرسائل العظيمة غالبا ما يتعرض مشروعهم التغييري للهجوم المضاد، ومحاولة الإجهاز عليه بشتى الطرق، وبمختلف الوسائل الممكنة؛ لأنه مشروع إحياء فطرة الإنسان وكينونته، ويهدف كذلك للحفاظ على منظومة القيم المثلى من التمييع، وحماية عقيدة الناس صافية متصلة بالله، كي يفهم الإنسان جدوى وجوده، ليبلغ نداء الآخرة للبشرية عامة، ويحمل همَّ مهمة الاستخلاف المنوطة به لإعمار الأرض كما ينبغي أن تكون، وينفذها كما أراد الله لها، ليحقق في الأخير هدف النبأ العظيم في مجتمع العمران الأخوي، والرحم الإنساني.

وكأن الفترة الزمنية الممتدة التي تفصل ما بين حدثين، يعيد التاريخ فيها نفسه، ففي شهر المحرم من السنة السابعة من البعثة النبوية تعرضت «الفئة القليلة» من مسلمي مكة بقيادة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لحصار اقتصادي واجتماعي ممنهج للحد من انتشار الإسلام، ومنع بناء دولة بمعايير إلهية جديدة، تستدعي اجتثاث الفكر الجاهلي من الجذور، وإعادة تشكيل بنية ذهنية عقدية تخرج الإنسان من ظلام الشرك، وعبادة الأصنام، والاعتقاد في الأوثان، إلى رحابة عبادة الله الواحد القهار.

ونظرا للإشارات التي تلقتها قريش بنجاح المشروع المحمدي في صناعة الإنسان وبناء شخصيته بمقومات أخلاقية سماوية، حاول زعماؤها قتل الرسول محمد عليه الصلاة والسلام وصحابته؛ لوأد الدعوة الإسلامية من البداية، والتخلص من حاملي مشعلها النوراني، بعدما فشلت في تخويف الصحابة بتعذيبهم في بطحاء مكة بالسياط، ودك أجسادهم بالصخور الكبيرة، تحت أشعة الشمس الحارقة. ومن أجل تحقيق ذلك اتخذت من وسيلة التجويع والتشريد والنبذ آلية لكسر البنية النفسية والعقدية في المسلمين الجدد، وهذا ما لم تتمكن منه بالرغم من سياسة الحصار الاقتصادي والاجتماعي المفروض على أصحاب الرسالة الفتية لمدة ثلاث سنوات.

فمعركة طوفان الأقصى التي وقعت بتاريخ 7 أكتوبر2023م؛ والتي تقترب من عامها الثاني، وما تعرضت له غزة وشعبها خلال هذه الفترة الزمنية من إبادة جماعية، وتدمير البنيان والإنسان، وانتهاك صريح لقوانين المجتمع الدولي، مع تهاوي القناع الجميل للمنظمات الدولية التي فقدت مصداقية مؤسساتها، وتبين بالملموس فشلها الذريع، وانحيازها المكشوف لـ”إسرائيل” إعلاميا وعسكريا وماديا.. هذه المعركة تعتبر لحظة حاسمة في تغيير مجرى الأمور؛ جاءت لتعيد تشكيل الوعي المجتمعي، وترسم خطة طريق تؤثر إيجابا في مسار تطور الأحداث على وحي ما سبق، وتسهم في بلورة رؤية جديدة تذكر العالم بحياة أمة، وببعث مشروعها الحضاري، وبأنها مازالت بخير مادامت تلك «الفئة القليلة»؛ الشاهدة بالقسط ترابط في الأمكنة المقدسة، وتدافع عن حقها في العيش الكريم، لتحيا على أرضها بحرية، وهي في جهاد مستمر كي تعلن للبشرية شهودها الحضاري في العصر الراهن، بعدما بدأت فيه ملامح الأمة الإسلامية بالتحول لأسوأ حقبة تاريخية، تكاد تختفي بصمتها من المشهد العالمي، وعلى مسرح الأحداث، وللأسف، أصبحت هامشا للآخر شرقا وغربا، فقدت فيه حس المقاومة، وتخلت عن سنة التدافع، وعن الفاعلية المجتمعية وسط الأمم الأخرى، فاختفى إشعاعها ومشروعها الريادي بين باقي الشعوب.

 فقريش الجاهلية كان فيها بعض الرجال رفضوا الانسياق وراء الرأي الجامع لزعماء القبائل، وكانت لديهم نظرة خاصة، وتعاطفا مع الرحم العائلي في ظل الحصار، وكان منهم على سبيل المثال؛ هشام بن عمرو العامري الذي كان يحمل البعير بالطعام والثياب، ويرسلها عند شعب أبي طالب 1 بسرية تامة. وهكذا استمرت محاولات بعضهم في فك الحصار عن بني هاشم، ومنها الخطابة المشهورة لزهير بن أبي أمية التي حاول أن يستميل بها بعض الزعماء: «يا أهل مكة أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يباعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة» 2 بعد مضي ثلاثة أعوام من الحصار الآثم.

وفي أيام الحصار في «شِعَب أبي طالب»، لم تشغل الرسول والصحابة آلامهم عن تبليغ الدعوة، وعرضها على كل وافد في موسم الحج؛ كما قيل «فإنّ الاضطهاد لا يقتل الدعوات، بل يزيد جذورها عمقا، وفروعها امتدادا» 3، وعلى إثرها كسب الإسلام أنصارا كثرا في تلك المدة الزمنية، مما أسهم في نشر أخبار الدين الجديد بين القبائل، فجاءت بيعة العقبة الأولى والثانية، وظهور فرق النصرة التي ستعلن ميلاد المرحلة الثانية من حياة الإسلام، بالهجرة النبوية من مكة إلى المدينة وبناء دولة الدين الجديد على ركن راسخ، وقاعدة مجتمعية مساندة.

وحَمِية لذوي الرحم عمل فريق من قريش على إبطال تلك المقاطعة الاقتصادية، بانتقاض الصحيفة التي تضمنتها، ولعل هذا ما يشير إلى نقض الشعوب لمعاهدات التطبيع مستقبلا، وفي ظل هاته الأحداث المروعة، والاضطهاد الممنهج، تفصح إرهاصات الواقع العالمي الحالي إلى التغيير في موازين القوى بالمستقبل القريب.

ونحن اليوم يتعرض جزء منا في الدم والعقيدة لأبشع جرائم الإبادة الجماعية، وانتهاك صارخ للحياة الإنسانية، ولم تحرك مشاهد الدماء ولا الأشلاء ولا الدمار لا دولا ولا حكومات، ولا أفرادا؛ فأين هي أمة المليار ونصف، لو تحركت في الوقت ذاته نحو البقاع المقدسة لحررتها في يوم واحد، ولن تستطيع “إسرائيل” ومعسكرها الغربي، صد جحافل المسلمين المتقدمة نحو تل الربيع (تل أبيب) من جميع اتجاهات الأرض الأربعة؛ ولأتوها زحفا من كل مكان، ولكن غلبت عليها الغثائية؛ حب الدنيا وكراهة الموت، فأقعدتها عن الجهاد والمقاومة.

فمشروع «وحدة الأمة»، التي تمزقت بمعاهدة سايكس-بيكو والاستعمار الحديث، ظهرت تباشيره للملأ مع الحدث الرئيسي يوم 7 أكتوبر، بالرغم من الحدود المصطنعة بين الأقطار الإسلامية، وأعاد طوفان الأقصى إحياء مشاعر الأخوة بين شعوبها، الذين مهما باعدت بينهم الجغرافيا والسياسة، إلا وتوحدت بوصلتهم حول المسجد الأقصى والقدس الشريف.


[1] ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق، عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1990، ج2، ص27.
[2] أبو الحسن (علي الحسني) الندوي، السيرة النبوية، دار الشروق للنشر والتوزيع والطباعة، جدة، ط8، 1989، ص139.
[3] محمد الغزالي، فقه السيرة، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط6، 1965، ص126.