كانوا سبعة من رجال القوات العمومية٬ بكامل عتادهم القمعي٬ لحظة أحاطوا بالشهيد كمال عماري الأعزل من كل واقٍ إلا مما يَدّرع به المناضل النبيل من حرقة واندفاع. حاصروه ثم أوقعوه بهراواتهم العاتية دون مقاومة منه. ثم تقاذفوه رفسا وركلا٬ مستفرغين في جسده الضئيل كامل لُؤمِهم وجبنهم. لم تستغرق حفلة القتل تلك إلا هنيهات٬ نَفّس خلالها أفراد العصابة العمومية عن ساديتهم٬ فسقط عقِبها “كمال” كتلة رخوة تُحتَضر ببطء. هرع الشهود يتفقدون مخلفات الجريمة الصامتة وقد انصرف القتلة يستكملون مهمتهم السامية في “حفظ الأمن” بسابق إصرار وتوحش.
حدث ذلك مساء الأحد 29 ماي 2011 بمدينة آسفي، عشية يوم احتجاجي من أيام الحراك الشعبي الذي قادته حركة العشرين من فبراير واستجابت له قرابة سبعين مدينة وبلدة بفعاليات سلمية بالغة الكثافة والقوة. بعد ثلاثة أيام من هذا التاريخ أسلم الشاب المغدور روحَه الطيبة٬ فاكتملت أركان جناية قتل على الملأ وبشهادة الشهود. حتى ذلك التاريخ، وبخلاف المنتظر في جريمة كهذه٬ لم تصدر مذكرة باعتقال مشتبهين على ذمة التحقيق٬ بل لم يصدر الأمر بفتح تحقيق في الشأن. ربما لأن الجناة ليسوا فئة باغية ولا “خلية إرهابية” أخطأتها عين الدولة الساهرة٬ بل هم الذراع القوية لدولة القمع المخزني؛ أفراد القوات العمومية!
تعالت جملة من الأصوات الفاضلة منددة بالجريمة وما تلاها من فصول الصمت والتمويه الرسمي٬ داعيةً الدولة إلى البرهنة عن صدق شعارات المرحلة وقد باتت اليوم تفخر بوثيقة دستورية توّجت بها أول فصول “الاستثناء المغربي”. ثم حل الموعد الذي ستثبت خلاله التقارير الحقوقية المختلفة – فيما ستثبت- أن واقعة القتل لم تكن عرضية من حيث هوية الضحية٬ بل إنه كان استهدافا بجريرة الانتماء لجهة معارضة هي جماعة “العدل والإحسان” نتج عنه قتل. وهذا ما وسع دائرة المحتمل تورطهم في دم الشهيد لتشمل، إلى جانب أفراد القوات العمومية٬ ضباط مديرية مراقبة التراب الوطني ممن حضروا لتغطية الاحتجاجات٬ وكذا أعوان سلطة.
لا شك أن الجريمة كانت مكشوفة إلى حد بعيد٬ وأن الضلوع المباشر فيها من جانب قوات الأمن كان عصيا على النفي. مما صعّب على السلطة وقتها أمر التغطية على الجريمة أو التمويه على معطياتها الدامغة؛ تارة بادعاء الإصابة السابقة للضحية٬ أو بنفي انتمائه للجماعة تارة أخرى. غير أن تاريخ 16 يونيو 2014 سيحمل جديدا؛ فقد انتصب السيد إدريس اليزمي٬ رئيس “المجلس الوطني لحقوق الإنسان”، على منصة البرلمان مقدما تقرير مجلسه عن الوضع الحقوقي بالمملكة٬ ليقر بالمسؤولية المباشرة للدولة في وفاة الشهيد كمال عماري وآخرين، جراء ״الاستعمال المفرط وغير المتناسب للقوة ضد المتظاهرين من طرف القوات العمومية״. ثم تلت ذلك تقارير مماثلة أصدرها كل من “المرصد المغربي لحقوق الانسان” و“مؤسسة الوسيط من أجل الديمقراطية” لتزكي في مجملها خلاصات المجلس الوطني. أما الجمعية المغربية لحقوق الإنسان فقد ثبت لديها أن واقعة ״التعنيف المفرط المودي الى قتل״ انما كانت تستهدف الضحية من حيث انتماؤه السياسي لجهة معارضة.
لم تعدم النيابة العامة، إذن٬ المعطيات الكافية لتحريك الملف في الاتجاه الصحيح الذي يدين الجناة ويجبر الضرر وينصف الشهيد وأسرته٬ مع إيلائه العناية الكاملة التي قد تدفعنا جميعا لتصديق شعارات المرحلة. لكن ذلك لم يحدث؛ فقد ظلت القضية تراوح مكانها وتحشد المزيد من الدعم الحقوقي والسخط الشعبي وتثير العديد من علامات الاستفهام والريبة٬ في الوقت الذي لم تحرك فيه فصول المتابعة في حق أي من المتورطين٬ بل إن أطوار المتابعة لم تتم من أصلها؛ حيث لم يستدع أي طرف للاستماع ولا التحقيق ممن هم على صلة مفترضة بالواقعة٬ لا من رجال فرقة الصقور ولا من ضباط مديرية مراقبة التراب الوطني ولا حتى والي أمن آسفي الذي يفترض أنه أمر بتحريك قوات الأمن وإصدار الأمر بالتدخل. وبعد خمس سنوات من المناورات٬ قرر قاضي التحقيق وقف المتابعة لعدم كفاية الأدلة!
لم تكن الأدلة كافية لإدانة الجناة! فقد نحت الدولة باتجاه استلهام الروايات البوليسية التي تشخص بعض حالات “الجريمة البيضاء” حيث يحرص مرتكبوها على تطهير محيط الجريمة واستباقها بحساب احتمالات لا يدع للمحققين خيط إدانة. عفوا لم يكن الأمر كذلك. فقد كانت جريمة قتل تنطق بكل التفاصيل. لكن الفاعلين على اختلاف رتبهم قد انتصبوا في موقع الخصم والحكم٬ فضاع بين المَوْقعين حق الشهيد٬ وهو عند ربه الآن حي يرزق. وهو عند ربه غدا حي يمسك بخناق قاتليه.