في بيت من بيوت المسلمين، وفي نهاية فصل الشتاء، الثلوج تذوب رويدا رويدا.. فتتحول صلابتها وقساوتها سيولا تجري بما ينفع الناس، وترسم على قباب الجبال منحنيات كأنها دموع تفيض حزنا على فراق فصل الشتاء. جلس الأب في مكتبه طويلا يفكر.. حتى دخلت عليه فاطمة وفي يدها صينية شاي صغيرة، قالت مازحة: ما الذي يحبسك عنا في هذا الركن من البيت؟ أجاب: ما يحبسني عنكم يا فاطمة إلا التهمم بكم، وأنت تعلمين قيمة التربية عندي، وأن تغذية أبنائي روحيا وعقليا أهم عندي من تغذيتهم جسميا.
ربّتت فاطمة على كتفه وقالت: بلى، أعلم يا حبيبي! ولكن هون عليك، فأن تكتب قصة للأطفال أعسر بكثير من أن تكتبها للكبار، ولكن نقارب ونسدد ونتوكل على الله، ومن صدق الله صدقه.
قال الأب: الصدق؛ إنه بالضبط لب موضوع حكايتنا القادمة، وسبب انعزالي هنا عنكم، فكيف أتناوله بعظمه، وكيف أبسطه تربية وخلقا وسلوكا، وهو مفتاح النجاة وصفة أهل الخير والفلاح، وقد كرمه الله أيما كرم بأن جعله من أسمائه الحسنى، فاسم الله الصادق برهان واضح على مكانة الصدق.
قام الأب فأحضر الكرسي الثاني في المكتب لتجلس زوجه بجانبه وأكمل: وهو شرط من شروط التربية بعد “الصحبة والجماعة” و”الذكر”، فالصدق عند المربي وعند من يتربى شرط لازم لتعطي التربية أكلها وثمارها فيستوي الزرع صادقا بارا ناجحا في كل امتحانات الدنيا والآخرة، فيعجب الزراع ليغيظ به أعداء الإسلام.
أطرقت فاطمة تفكر بعض الوقت ثم قالت: إن ذكرنا الصدق لاذت قوافل أفكارنا بجوار أول الخلفاء الراشدين، فتذكرنا سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فما نال مقام الصديقية إلا بصدقه وإخلاص نيته وبشيء وضعه الله في قلبه، وقد كان عنوان للصدق حتى عُرف بين الناس بتصديقه اللامتناهي والامشروط لجناب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حتى في حادثة الإسراء والمعراج الباهرة التي راهن المشركون عليها لزعزعة تصديقه وبث الشك في قلبه فقالوا: اليوم نفرق بين محمد -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، وهرولوا إليه قائلين: يا أبا بكر إن صاحبك يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة في ليلة واحدة، فقال بصدق وثبات ويقين: إن كان قال فقد صدق!. فانصرفوا خائبين لم ينالوا كيدهم، وحاز سيدنا أبو بكر بصدقه وتصديقه مقام الصديقية، وشرف الدنيا والآخرة رضي الله عنه وأرضاه. هذا مثال، وإن من أخبار الصادقين وقصص جزائهم الحسن لكثير مما تنشده العقول وتشرئب له النفوس ويتحرى السير على دربه السامعون، وقد حضرتني إحداها وهي قصة “القائدة لؤلؤة”.
حرك الأب رأسه بإيجاب وقال: إذن، إليك القلم، وأنت صاحبة منبر حكايات أبوية لهذه الليلة.
القائدة لؤلؤة
في المساء بعد صلاة العشاء اجتمع الأبناء الثلاثة حول أبويهم بعد أن أنجزوا جميع الواجبات المدرسية والمنزلية، فابتدأت الأم فاطمة حديثها قائلة:
أطفالي الأعزاء، في عالم مليء بالرقميات وعلوم التكنولوجيا والتقنيات، والصور ثلاثية الأبعاد والشاشات في كل مكان، والسيارات الطائرة تنافس الحافلات “الأوتوماتكية” ذات السياقة الذاتية في الجودة والسرعة، ووسائل التواصل العابرة للقارات المتطورة جدا والمتاحة لكل الشرائح.
في زقاق بسيط كانت تلعب لؤلؤة مع أخيها الصغير بسّام، ولعبتها الآلية الصغيرة ليلي التي قدمها لها عمها المخترع والعبقري في الذكاء الاصطناعي. كانت لؤلؤة يتيمة الأب وكانت أمها توصيها دائما بالصدق قولا وفعلا وفي كل شيء. كبرت لؤلؤة وترعرعت على هذا المبدأ فصدقت واهتمت بأخيها في المأكل والملبس والتعلم، وحفظته في غياب أمها التي تعيلهما، وحمته من قراصنة الوقت ورفقة السوء، فتعلم القرآن معها وتألق في عالم “المانغا” وأصبح مؤلفا ورساما على حداثة سنه.
وصدقت وأخلصت في الدراسة؛ فتعلمت علوم عصرها من رياضيات وهندسة الآلة والروبوتات وتقنيات البرمجة، واستفادت من ذلك لتطوير لعبتها ليلي. كما تعلمت لغات عدة أولهن العربية، لتتمكن من ركوب موجة التطور الرقمي وريادة سوق تكنولوجيا الجيل الجديد للتقنيات. وأرسلت إلى مجموعة من الشركات الكبرى فوجدت منافسة قوية لتدخل مضمار الرقمنة وتصميم الروبوتات، لكنها صدقت وخصصت ما تملك من علم ووقت وجهد لتحول لعبتها الآلية ليلي من مجرد لعبة إلى نموذج مساعِدة آلية متطورة في إدارة الأعمال، تتميز بسرعة فائقة في تسيير جداول الأعمال، من برمجة المواعيد، وجمع قاعدة البيانات وتحليلها، كما أنها مرافقة جيدة في الأعمال الخارجية. أعجبت إحدى الشركات الكبرى بتصميم “المساعدة الآلية ليلي، وعرضت على لؤلؤة عرضا سخيا وأن تكون قائدة لمشروع تصنيع نماذج ليلي، فوافقت بحماس وبدأت بالاستعداد لتكون “القائدة لؤلؤة”؛ رئيسة مشروع تصنيع الروبوت “ليلي”.
ولكن لا تجري الرياح دائما بما تشتهي السفن، ففي اليوم التالي استقلت الحافلة متوجهة إلى مقر وظيفتها الجديدة مصطحبة معها مرافقتها ليلي وأخوها بسام، الذي ستستضيفه إحدى البرامج الإعلامية المتواجدة في نفس المكان، ولما بلغت الحافلة مكانا خاليا تعرضت للتوقيف الأوتوماتيكي من قبل لصوص العصابات التي تنهب كل شيء ذي قيمة، وخصوصا الروبوتات، فعمت الفوضى والهلع بين الركاب؛ الكل يسارع ليخفي ما يملك خوفا من بطش اللصوص. أخرجت لؤلؤة حجابا ونظارة فألبستهما ليلي للتمويه.
قال لها أخوها بسام: ماذا سنفعل يا أختي؟
فأجابت: سنفعل ما توصينا به أمنا دائما، نقول الصدق ولا شيء غير الصدق!
فتش اللصوص الركاب جيدا وأخذوا متاعهم، ولما وصلوا إلى لؤلؤة وأخيها فتشوا حقائبهما فقال أحد اللصوص: “أليس لديكما شيء ثمين غير هذه الأوراق والأقلام؟”.
فأجابت لؤلؤة: “بلى، لدينا هذه السيدة الآلية”.
تعجب اللصوص من قولها و ضحكوا باستهزاء وقالوا: “لو كانت هذه آليةً لما قلتها وأظهرتها لنا، ولو كانت ذات قيمة لخبأتها”. وقال رئيسهم: “لم أر في حياتي آلية محجبة بنظارة شمسية، لا داعي لتضييع الوقت مع هؤلاء الصغار الحمقى، فوقت اللصوص ثمين مثل ما يسرقون هاهاها”.
نظر بسام إلى أخته بابتسامة جانبية وتمتم: “نجونا بالصدق”، ثم أُفرج عن الحافلة فتابعت سيرها لبلوغ وجهتها.
توالت الأيام وذاع صيت القائدة لؤلؤة، وأعجبت قيادتها ببراعتها في العمل الجماعي وذكائها وخلقها.. وازدهر إنتاج شركتها أضعافا، فدخلت القائدة لؤلؤة كتاب العظماء الصادقين الذين يعرفهم أهل الأرض وأهل السماء.
نظرت فاطمة إلى الأب وأبنائهما الذين يغالبون النعاس من أجل إتمام القصة، وحمدت الله وأغلقت دفتر حكايات أبوية، إلى فرصة أخرى وحكاية أخرى إن شاء الله.