مائدة مستطيلة بأربعة مقاعد، أمام كل مقعد صحن مرفق بشوكة، وفي المنتصف تنوعت أصناف الطعام بين الحلو والمالح، ومازالت تلك السيدة تضع آخر لمساتها لكي لا تسمع أي توبيخ من زوجها، سيد البيت. دخل هذا الأخير ببذلته الرسمية وقد فك ربطة العنق في طريقه، يحمل في يمينه حقيبة تحتوي على الغالب أوراقا، لم يُلق التحية، ولم يسمع ترحيبا، ربما هو لا ينتظر سماعه.
جلس إلى المائدة وهو يصرخ في زوجته، التي اجتمعت في وجهها مظاهر الخوف مرفقة بآثار لكمات سابقة لم ينجح المكياج في إخفائها رغم غلاء ثمنه، بدون مراعاة لتعبها في المطبخ، ولا لتعبه في مكان عمله، ربما هو لا يتعب، فهو مدير تنفيذي في شركة محترمة، ميسور الحال، هذا الظاهر، مجرد مظاهر: “أين ابناك الأحمقان؟”.
– “لا شك أنهما في غرفتيهما كالعادة مع تلك الأجهزة اللعينة”، ترد هي بخوف من ردة فعله. “ألست من اشترى تلك الأجهزة؟”.
– “وماذا ترغبين في أن يقول الناس؟ لا يملك مالا ليشتري مجرد أجهزة لأبنائه”.
على إثر هذا الحديث يدخل طفل لا يتجاوز عمره العشرة، تتبعه فتاة تكاد تبلغ الثالثة عشر، منحنيا الرأس يقصدان الكرسيان المخصصان لهما، فيصيح الوالد: “أليس فيكما من يتأدب في حضرتي ويسلم علي؟”.
يغيران وجهتيهما إليه، يقبلان يده ثم يجلس كل أفراد الأسرة إلى المائدة ليشرعوا في تناول وجبة العشاء، في صمت تام مميت.
خارج أسوار هذا البيت الفخم، وفي الجهة الثانية من الشارع، بيت بسيط بدور واحد، ترتاح له أعين الناظرين، يدخله رجل بلباس ميكانيكي ملطخ ببقع سوداء، يحمل في يده كيسا تظهر منه حلوى وسكاكر، بمجرد إغلاقه الباب يرتمي في حضنه جسمان صغيران كل منهما يرغب في أن يكون أول من يعانقه، مع ضحكات صغيرة لولدين في نفس السن، يلقي بالكيس جانبا ويبادلهما العناق، يرفع بصره ليطالع وجه زوجته البشوش، وهي تبادله النظرة مرفقة بابتسامة تزيد من إشراقة وجهها، ليقوم إليها بعد أن سلَّم ولديه هديته البسيطة واستقبلاها بكل فرح ورضى، تحييه ببسمتها وتقول له ممازحة: “أين حصتي من الحلوى؟ ألست أيضا ابنتك؟”.
فيضحك هو الآخر ويقول: “أعتذر منك هذه المرة، فقد سَطَا هذان الصغيران على حصتك، لا تقلقي في المرة القادمة سأحضر لكِ فقط”.
تتهافت أصوات مُعارضِةٌ من الطفلين.
– “حمَّامُك جاهز في انتظارك، مثل العشاء تماما، استعجل كي لا يبرد الطعام يا عزيزي”. تقولها الزوجة مشيرة إلى منتصف البيت بيدها حيث حضّرت مائدة مستديرة بإناء واسع في الوسط يحتوي العشاء، فيهتف أحد الصغيرين قائلا: “لقد ساعدت والدتي في تحضير العشاء يا أبي”. فيقاطعه الآخر: “وأنا ساعدتها في إعداد المائدة”. فيضحك كل من الأب والأم مرددان الدعوات بحفظ هذين الشقيين.