عن عائشة رضي الله عنها قالت: أتيت النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخزيرةٍ (حساء يعمل بلحم) قد طبختُها له، فقلت لسودةَ – والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيني وبينها – كُلي، فأَبَت، فقلتُ: لتأكُلِنَّ أو لألطِّخَنَّ وَجهَك، فأبت: فوضعتُ يدي في الخزيرةِ فطَليتُ وَجهَها، فضَحِكَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فوضع بيَدِه وقال لها: الْطخي وجهَها، فضَحِك النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لها، فمَرَّ عُمَرُ فقال: يا عبد اللهِ يا عبد اللهِ، فظنَّ أنه سيدخلُ فقال: قوما فاغسِلا وجوهَكما، قالت عائشةُ: فما زِلتُ أهاب عُمَرَ لِهَيبةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (روَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، خَلَا مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ).
لو لم تكن الراوية السيدة العالمة الجهبذ معلمة الرجال، عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، ولو لم تُذكر الشخصيات في الحديث “الحادثة” لقلنا أنه في زماننا مشهد من مشاهد الروايات الوردية الحالمة المثالية.. إذ كيف لضرتين والزوج بينهما تتبادلان النكت واللعب وتُضحكانه وهو الحكَم الدمث تحت سقف واحد وعلى مائدة طعام واحدة؟ مع ذِكر طبيعة النساء وغيرتهن..
لقد ذُكر أن رسول الله ذكرهما أو خطبهما في وقت متقارب، خطبتهما “خولة بنت حكيم السلمية” التي نالت شرف التنفيس على سيد الخلق، وأقدمت على ما ناء بأصحابِ رسول الله لِما رأوا من أثر فراق خديجة عليه.. فهي من دلته على الزواج، فكانت خاطبة سودة وعائشة رضي الله عنهما..
فأما سودة فكانت ثيبا ذات شيبة وهرم، أخذ منها الزمن مأْخذَه وذبلت منها ملامح الشباب ولم يكن فيها مرأب مما يرنو إليه أرمل غابت عنه قرة العين والصويحبة في النوائب والسند في الشدائد وأم البنات والبنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها.. لكنه صلى الله عليه وسلم استأمنها على حفظ ظهره وبيته وأبنائه، تقوم عليهم وعليه ولها شرف أمومة المؤمنين، وصحبة سيد الأولين والآخرين.. فإنها لم يكن لها غرض بما تشتهيه النساء، ولحكمتها وتجربتها كانت متيقنة أن قلب رسول الله ما كان يوما ولن يكون لها، لكنها آثرت أن تبعث وهي أم للمومنين..
وأما عائشة المدللة الصبية صاحبة الحظوة فكانت لم تبلغ الحلم بعد.. تحب اللعب، تَفتَّح قلبه حين ذُكرت عنده لمقام أبيها الصديق من جهة ولقِدم معرفته بها من جهة أخرى، فقد نمت وترعرعت وأينعت على مرأى منه، وكانت رغم حداثة سنها شجاعة القلب، سريعة البديهة، نضرة الطلعة، واجتمع فيها ما تفرق في غيرها من النساء.. ولوجود الفارق فإن بنت الصديق لم يكن يضرها وجود سودة كضرة بقدر ما كان يغيظها ما تحتل خديجة من قلب رسول الله..
وهكذا تداعب عائشة ضرتها سودة وتهددها بتلطيخ وجهها بالخزيرة إن هي أبت أكلها، في حضرة سيد الأمة وقائدها الأعظم، من لم تشغله الشواغل الكبار عن وقت يقتصه لأهله، فما أزبد ولا أرعد ولا نهض عن المائدة يعاف أكلها.. في حضرة الحبيب الرؤوف الرحيم، يضحك من عبث نسوي ويشجع سودة أن تنتقم لكرامتها يدفعها بيديه الشريفتين لتأخذ بثأرها من ذات الجذوة المتقدة.
لقد تربين في البيت الأحمدي في بيت اللاصخب، مع من لم يكن لعانا ولا فحاشا، حكمة وتريث ووقار ينسدل على سودة واندفاع وطفولية ودلال يغزو عائشة، فمِن هنا انطلقت دعوة الجهاد ودعوة الرحمة، من هنا بنيت أولى قواعد مجتمع إنساني أخوي بامتياز، تحفه هالة حب الله وحب رسول الله والمومنين.. مع ما ينطوي عليه من البشرية التي لم تمنع آل بيت رسول الله من بلوغ ما تشرئب له أعناق الصالحين.