عجيب أمر تلك النفس التي تعلم علم اليقين أن الحق أحق أن يتبع ولكن تأخذها العزة بالإثم فلا ترجع إلى الصواب وإلى ما جبلها الله عليه، فتصبح المتحكم في كل شيء، في القلب والعقل والجوارح، يأتمرون بأمرها وينتهون بنهيها، حتى يختلط على الإنسان الحق والباطل، والصواب والخطأ، ويجتمع فيها الشر كله، تأمر صاحبها بفعل كل رذيلة وتدفعه لارتكاب كل سيئة وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (يوسف: 53).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: في النفس كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، ووقاحة هامان).
إن نفسا فيها كل هذه الصفات أو بعضها وجب إدلالها وعدم الرضا عنها ومحاسبتها وكبح جماحها، قال مجاهد: من أعزّ نفسه أذل دينه، ومن أذلّ نفسه أعزّ دينه). لذلك وجب مخالفتها، وعدم اتباعها، والإعراض عن مطالبها وشهوتها ، قال الشاعر:
وخالف النفس والشيطان واعصهما
وإن هما محضاك النصح فاتهم
فالحذر الحذر من الرضا عن النفس، فهو أصل كل معصية وبلية، قال ابن عطاء الله السكندري أصل كل معصية وغفلة وشهوة… الرضا عن النفس.. وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا منك عنها).
فالراضون المعجبون بأنفسهم لا يقبلون نصيحة ولا يستمرون في طاعة، إنما تزين لهم القول والفعل حتى يظنون أنهم على الصواب قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (الكهف 103-104).
فمن أراد سعادة الدنيا والآخرة وجب عليه محاسبة نفسه ومجاهدتها وطهارتها بتزكيتها، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (الشمس 9-10). وقال ابن القيم: فإن زكاة (النفس) وطهارتها موقوف على محاسبتها، فلا تزكو ولا تطهر ولا تصلح البتة إلا بمحاسبتها… فبمحاسبتها يطلع على عيوبها ونقائصها فيمكنه السعي في إصلاحها) وقال الحافظ ابن القيم -رحمه الله تعالى-: اتَّفق السالكون إلى الله -تعالى- أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، ولا يوصل إليه إلا بعد تركها ومخالفتها والظفر بها). وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: “اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها”.