رحم الله الشهداء وأسا جراح الجرحى والمصابين وصبر المصريين المكلومين، فالمصاب جلل والخطب عظيم، وحفظ الله مصر من كل سوء فالفتنة عظمى والابتلاء عسير، المشاهد مؤلمة فوق الاحتمال، والمؤامرة ماكرة تكاد تزول من هولها الجبال، المؤامرة أكبر من مصر، المؤامرة على الإسلام وعلى شعوب مسلمة تتطلع للتحرر من الاستبداد والتبعية والانبطاح، والله أكبر والله أكبر..
خطط المخططون وتآمر المتآمرون وحرض المحرضون وتلطخت بدماء الأبرياء أيدي المجرمين، أرادوا أن يكسروا إرادة الشعوب ويعطبوا النفوس والقلوب بالخوف واليأس والإحباط، ويأبى ربك إلا أن يجعل من مجازر العسكر في مصر كما في فلسطين وفي بورما وفي البوسنة وفي أفغانستان قبلها مدارس تحيى بها الأمة وتحيى بها أجيال وأجيال، يشاء ربك القوي العزيز أن يجعل للأمة في كل محن عصيبة منحا إلهية، فمع سقوط الشهداء تتطلع النفوس أكثر للشهادة، وعند اضطهاد الإسلام والمسلمين يزداد الناس تشبثا بدينهم، وعند تكالب الأمم وشدة الابتلاء يوقن أهل الإيمان أنهم على الحق وأنهم على الطريق، وأن المعركة في جوهرها ولبها بين حق وباطل، بين كفر وإيمان، بين جاهلية وإسلام. وما مرتزقة الاستعمار والجاهلية فينا إلا وكلاء غروهم بقولهم “حسناء”. تتهاوى مفردات السياسة وتخاريف السياسيين لتتكشف الحقيقة الظاهرة الباهرة أن الإسلام يحارَب في كل مكان، وأن المسلمين مضطهدون بكافة الأشكال والألوان، وأن دماءهم أرخص الدماء وأرواحهم أهون الأرواح.
حقا إن ما يقع في مصر يشعر كل مسلم، كل إنسان، كل من فيه ذرة مشاعر بالمرارة والألم والغضب، لكن وضع الأحداث في سياقها التاريخي وفي بعدها الإيماني، وفي سياق التدافع بين الحق والباطل، يجعلنا ندرك أن ما يقع هو أمر طبيعي في مسيرة أمة أراد الله أن يجعلها شاهدة على الأمم وارثة مستخلفة، وأن نستعد للتضحيات لنصرة دين الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. حتى “يكون الدين لله”، ويجعلنا ندرك أن أحداث مصر مثل من الأمثال يضربه الله للناس وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون.
أمة تتعافى من الوهن
حب الدنيا وكراهية الموت، شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم داء الأمة في حديث “يوشك أن تداعى عليكم الأمم” في “الوهن”، وأكبر أعراضه ذل وهوان وسقوط في ميزان الأمم، والوهن كما عرفه الشفيع المشفع: “حب الدنيا وكراهية الموت”، ولحكمة بالغة جعل الدنيا مقابل الموت وليس الحياة مقابل الموت، لأن للحياة معنى أكبر وأسمى فلا حياة مع الهوان، مع الذل، مع العبودية لغير الله، ولأن من يحب الحياة يحرص على الموت، ومن حرص على الدنيا وشهواتها عاش ذليلا ومات ذليلا. وانظر رحمك الله كيف يستقبل الناس الرصاص بصدورهم العارية ويحرصون على الشهادة، وتأمل شهادات الأقارب والأهل والأحباب في تشوق المعتصمين للشهادة وحرصهم عليها والإلحاح في طلبها.
وليتخذ منكم شهداء
طوبى لشهداء رابعة والنهضة وكل ميادين العزة، طوبى لشهداء مصر، وطوبى لكل أمة يكثر فيها الشهداء فيكثر فيها الشفعاء، فتسري أرواحهم ودماؤهم إسراء بشعوبهم على خطى الأنبياء وتعرج بهم معراجا في أهل السماء، الشهداء نجوم الأمم التي يقتدى بها، ومعالم الطريق وعرائس الحق والعدل والكرامة، والشهادة قبل هذا وبعده اصطفاء إلهي واختيار، وتفضل من الله على أحبابه وأوليائه وليست رزية أو بلية، إنما هي فراق ولقاء وانتقال من حياة إلى حياة، ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (آل عمران 169)، وهذا معنى الحياة المقابل للموت في حديث الوهن، إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَيُحِبُّ الظَّالِمِينَ (آل عمران 140).
فينظر كيف تعملون؟
قلب الحقائق، والكذب والتزييف ليس مستغربا على فراعنة أي مصر وفي كل عصر، ألم يخبرنا ربنا عز وجل: وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم وأن يظهر في الأرض الفساد (غافر 26). عجبا! موسى كليم الله النبي يريد الفساد في الأرض ويوافق المتمالئون الكاذبون ويحرضون لتكتمل الصورة وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون (الأعراف 127). مشاهد متكررة في التاريخ، وأما السلاح والرد: فاليقين في الله ووعده، كما أخبر نبي الله موسى عليه السلام في ذات السياق: قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون” (الأعراف 128/129).
ولكنكم تستعجلون
بشاعة القتل تتكرر في التاريخ وصور الهمجية تتعدد وتتشابه، دم وأشلاء وإحراق وإغراق وتخويف وإرهاب لكن ماذا بعد القتل؟ نصر وتمكين ومجد في الخالدين والعاقبة للمتقين. عن خباب بن الأرث قال: “شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا قال: “كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون””.
قد تتخطف المجاهدين مخالب الدنيا وتزيغ بهم الطرق عن المحجة البيضاء، ويشاء ربك أن يسلط على أحبابه سياط القدر تنبيها وتأديبا واستخلاصا وتقريبا، وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم.