خير نساء العالمين | فاطمة الزهراء (9).. “اللهم بارك فيهما و بارك لهما في بنائهما”

Cover Image for خير نساء العالمين | فاطمة الزهراء (9).. “اللهم بارك فيهما و بارك لهما في بنائهما”
نشر بتاريخ

قال تعالى: ‏لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ‏ [1].

تذكرون حينما جاء سيدنا علي رضي الله عنه خاطبا السيدة فاطمة، لم يكن عنده شيء يقدمه لها مهرا، فطلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث لها بدرعه الحطمية.

هذه الدرع التي اختلفت الروايات في تحديد قيمتها.. فبعض الروايات تقول بأن سيدنا عليا باع درعه وبعض من متاعه فأتم مهر السيدة فاطمة عليها السلام أربعمائة وثمانين درهما، يؤيد هذا القول حديث عند الهيثمي “فباع عليٌّ رضي الله عنه دِرعًا له وبعضَ ما باع مِن مَتاعِه فبلَغ أربعَمائةٍ وثمانين دِرهمًا” [2]، في حين تقول روايات أخرى بأن الدرع وحدها بيعت بأربعمائة وثمانين درهم، أما الشيعة فيرون أن الدرع بيعت بخمسمائة درهم.

وعلى كل حال فقد اتفقت الروايات كلها على أن مهر السيدة فاطمة عليها السلام كان بين أربعَمائةٍ وثمانين وخمسمائة درهم، وهو ما كان يصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه.

حينما بلغ هذا المهر بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمرهم “أن يَجعَلَ ثُلُثَيه في الطِّيبِ وثُلُثًا في الثِّيابِ” [3].

وإنها لالتفاتة ذوقية راقية، وإشارة جمالية واقية، ونصيحة غالية باقية.

والطيب بكسر الطاء ومدّها من طاب يطيب، وهي كلّ رائحة عطرة يُتطيَّبُ بها.

فمنه ما يدّهنُ به، ومنه ما يرش كالعطور، ومنه ما يستجمر به كالبَخور.

والطيب غذاء الروح كما قال ابن القيّم رحمه الله تعالى، وهو مقو للأجساد، نافع دافع لبعض العلل والأسقام.

والرائحة الطيبة كلها خير، تجذب الغير، صاحبها يؤلف ويؤانس، ويقرّب ويجالس، ويحبُّ ويجانس..

الرائحة الطّيّبة للزوجين محببة مقربة، تزيد علاقتهما ارتباطا وقربا، ومودّة وحبّا. الرائحة الزكية تشرح الصدور، وتؤجج العواطف وتبعد الفتور، تقوي الرغبة وتطرد النفور. الرائحة الزكية ميسّرة للأمور، مسهّلة للعبور، كأنها إشارة مرور، أو بشارة سرور.

على عكس الرائحة الخبيثة والعياذ بالله؛ فإنها مبعدة للملائكة، جالبة جاذبة للشياطين، منفّرة للجالسين، مفرقة بين الزوجين…

الرائحة الكريهة المنبعثة من أحد العروسين تخنق الأنفاس وتجثم على الصدر فلا تطاق، وهي مدعاة للبعاد والشقاق، مسبّبة للنفور والفراق، بل موصلة إلى الطلاق وطلب الانعتاق.. وكيف يطيق المرء ما لا يطاق..

كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمر من أكل الثوم والبصل ألا يأتي إلى المسجد “من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئا، فلا يقربنا في المسجد” [4]، وكان الرجل يوجَدُ ريحُهُما منهُ فيؤخَذُ بيدِهِ حتَّى يُخرَجَ إلى البقيعِ [5].

لذلك أولى مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقضية الطيب اهتماما خاصا وعناية فائقة، لما لها من تداعيات على الحياة الاجتماعية والأسرية والزوجية.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الطيب؛ “حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة” [6]، وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من استعماله، “وكانت له سُكَّةٌ يتطيَّبُ منْها”  [7]، والسكة قيل هي إناء خاص يوضع فيه الطيب، وقيل هي نوع رفيع من أنواع الطيب.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرد الطيب إذا أهدي إليه، ونهى عن ردّه “مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَلَا يَرُدَّهُ، فَإِنَّهُ طَيِّبُ الرِّيحِ، خَفِيفُ الْمَحْمَلِ” [8].

ومع عدم حاجته صلى الله عليه وسلم إلى الطيب فقد كان يكثر استعماله، كان صلى الله عليه وسلم طيبا مطيَّبا مطيِّبا… بل لقد كان عليه الصلاة و السلام منبع الطيب، يقول غلامه أنس رضي الله عنه “ما شَمَمْتُ عَنْبَرًا قَطُّ، وَلَا مِسْكًا، وَلَا شيئًا أَطْيَبَ مِن رِيحِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم” [9].

لا ريح المسك تضاهي ريحه، ولا ريح العنبر تساميه.. صلى عليك الله يا سيدي يا حبيب الله.

ولقد “دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى بيت أبي طلحة الأنصاري زوج أم سليم والدة سيدنا أنس رضي الله عنهم أجمعين فقال (أي نام) عندهم، فعرق وجاءت أم سليم بقارورة فجعلت تسلت العرق، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: عرق نجعله في طيبنا وهو أطيب الطيب” [10].

يطيّبون طيبهم بعرق رسول الله صلى الله عليه وسلم.. صلى عليك الله يا سيدي يا حبيب الله.

كان عليه الصلاة والسلام إذا وضع يده على رأس صبي عُرف من بين الصبيان بريحه صلى الله عليه وسلم. وكان إذا صافح رجلا بقيت ريحه الزكية في يد الرجل سائر يومه.

ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر التّطيُّب، وتشتدُّ عليه الرائحة الكريهة وتشقُّ عليه.

“اجعلوا ثلثيه في الطيب” .. إنها لوصية خبير.. واسأل به خبيرا.

أي قيمة لثوب اشتري بالألوف، رائحة من يلبسه تزكم الأنوف؟

أي فائدة لثياب اشتريت بالملايين، ريح من تلبسها تشقُّ الجبين؟

“اجعلوا ثلثيه في الطيب، وثلثا في المتاع”

واتمروا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. واشتروا بثلثي المهر طيبا، وبالثلث الباقي ثيابا ومتاعا.

تتساءلون… ما كان جهاز بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

أما الشيعة فيفصلون في ذلك تفصيلا… ولهم لائحة طويلة. وأما السنة فأصح ما عندهم حديث سيدنا علي الذي رواه الإمام أحمد: “جهَّز رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فاطمةَ رضيَ اللهُ عنها في خميلٍ وقِرْبَةٍ ووسادةِ أَدَمٍ حشوها إذخرٌ قال أبو سعيدٍ ليفٌ” [11].

والخَمِيلَةُ: القَطيفَة، “وَهِيَ كُلُّ ثَوْب لَهُ خَمْل مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ” [12]. والقربة: هي ما يتخذ للسقاء [13]، والوسادة: “هُوَ مَا يتوسد عَلَيْهِ عِنْد النّوم، وَيجْعَل عَلَيْهِ الرَّأْس، أَو يُتَّكأ عَلَيْهِ” [14]، والأدم: “والأدم وَهُوَ الْجلد بِكَسْر الدَّال” [15]. والليف: “هُوَ مَا يخرج من أصُول سعف النّخل يحشى بهَا الوسائد” [16].

هذا كان جهاز السيدة فاطمة عليها السلام.

حملوا الجهاز وانطلقوا بالعروس إلى بيت زوجها، فقال مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لسيدنا علي رضي الله عنه: “أنْ لا تَقْرَبْ أهْلَكَ حتَّى آتِيَكَ”. ثم بعد حين، لحق بهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم “فدعَا بماءٍ، فقال فيهِ ما شاءَ اللهُ أنْ يَقولَ، ثُمَّ نَضَحَ بالماءِ على صَدْرِ عليٍّ ووجْهِهِ، ثُمَّ دعَا فاطمةَ، فقامَتْ تَعْثُرُ في ثَوْبِها مِنَ الحَياءِ، فنَضَحَ عليها أيضًا، فقال: يا فاطمةُ، إنِّي لم آلُ أنْ أَنكَحْتُكِ أَحَبَّ أهْلي إليَّ. ثُمَّ خَرَج، فقال لعليٍّ: دُونَكَ أهْلَكَ. ثُمَّ ولَّى إلى حُجَرِهِ، فما زال يَدْعو لهُما حتَّى دَخَلَ حُجَرَهُ”  [17].

“اللَّهمَّ بارِكْ فيهما وبارِكْ لهما في بنائِهما” [18].

“اللهم بارك فيهما، وبارك عليهما، وبارك لهما في بنائهما، وبارك في نسلهما” [19].

ما زال صلى الله عليه وسلم يدعو…

لم تنسه فرحة النعمة ذكر المنعم سبحانه.. هكذا هم أهل الله.. في الأفراح، وفي الأتراح هم دائما مع الله.

يذكرونه ويدعونه ويسألونه…

وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [20].

رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [21]

رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [22].

هكذا هم أهل الله.. لا يفتُرون عن ذكر الله ودعائه.

فاللهم صلّ وسلم وزد وبارك وأنعم على سيدنا محمد وآله وصحبه وحزبه.



 [1] الأحزاب‏: ‏21.

 [2] رواه الهيثمي في مجمع الزوائد عن سيدنا علي. (9/178) وقال رجاله ثقات.

 [3] رواه الهيثمي في مجمع الزوائد عن سيدنا علي. (9/178) وقال رجاله ثقات.

 [4] رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري.

 [5] رواه ابن ماجة عن  معدان بن أبي طلحة اليعمري موقوفا على عمر رضي الله عنه.

  [6] رواه الهيثمي في مجمع الزوائد عن سيدنا علي. (9/178) وقال رجاله ثقات.

  [7] رواه أبو داود عن انس بن مالك والسُكَّةٌ بضم السين المهملة وتشديد الكاف: نوع من الطيب عزيز، وقيل: وعاء يوضع فيه الطيب.

  [8] رواه أبو داود عن أبي هريرة.

  [9] رواه مسلم عن انس بن مالك، وروى البخاري مثله.

  [10] رواه مسلم عن انس بن مالك.

  [11] أخرجه أحمد في “مسنده” (643)، والنسائي في “سننه” (3384) ، وابن حبان في “صحيحه” (6947)، والحاكم في “المستدرك” (2755)، و ابن ماجة.

  [12] قاله ابن الأثير في “النهاية في غريب الحديث” (2/81).

  [13] قاله ابن منظور في “لسان العرب” (1/668):” والقِرْبةُ مِنَ الأَساقي.

  [14] قاله القاضي عياض في “مشارق الأنوار على صحاح الآثار” (2/294).

  [15] قاله القاضي عياض في “مشارق الأنوار على صحاح الآثار” (1/24).

  [16] قاله ابن حجر في “فتح الباري” (1/185).

  [17] رواه ابن حجر العسقلاني في المطالب العلية (2/183) عن عكرمة وأبو يزيد المدني.

  [18] رواه ابن حجر العسقلاني في المطالب العلية (2/183) عن عكرمة وأبو يزيد المدني.

  [19] أخرجه الروياني وابن عساكر، كما في الكنز .

  [20] سورة آل عمران: 36.

  [21] سورة البقرة: 127.

  [22] سورة النمل: 19.