دراسة في الآليات الإسرائيلية لفرض السيادة على الحرم القدسي الشريف

Cover Image for دراسة في الآليات الإسرائيلية لفرض السيادة على الحرم القدسي الشريف
نشر بتاريخ

مقدمة

لـم تستطع إسرائيل فرض سيادتها الكاملة على القدس العربية التي احتلتها عام 1967، فقد بقيت الكثير من القطاعات (مثل الأوقاف الإسلامية، والكنائس الـمسيحية، والتربية والتعليم والصحة والرفاه الاجتماعي والشباب، والكهرباء، وجزء من تزويد الـمياه…الخ) تحت سيطرة فلسطينية، تنامت هذه السيطرة مع مرور الوقت، او قلت في الأوقات الصعبة. لقد حاولت إسرائيل التسلل تدريجيا الى القطاعات الـمختلفة لعلها تستأثر بسيادة أوسع، كما فرضت سيادتها بالأمر الواقع قدر الامكان. وأكثر الـمناطق حساسية بالنسبة لـموضوع السيادة كان الحرم القدسي الشريف، ولا يزال، والذي بقي معضلة سيادية يؤرق مضاجع الحكومات الإسرائيلية الـمتعاقبة، التي حاولت بكل السبل كسر الارادة الفلسطينية فيه.

في هذه الـمقالة محاولة لفهم آليات السيطرة الإسرائيلية على القدس العربية بعد حرب حزيران 1967، ولا يمكن النظر الى هذه الحالة (باب الـمغاربة) بوصفها تنطبق على كل الـممارسات الإسرائيلية في القدس، كما لا يمكن اعتبارها ممثلة لكل الآليات التي استخدمت حتى الآن للسيطرة على الـمدينة، بل بوصفها حالة دراسية قد تفيد الباحث في استقراء تاريخ القدس الـمحتلة منذ عام 1967، وتاريخ الصراع على السيادة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في القدس بشكل عام وفي الحرم الشريف بشكل خاص.

موقع باب الـمغاربة وتاريخه

يقع باب الـمغاربة في الجزء الجنوبي من الجدار الغربي للحرم القدسي الشريف (1)، وكان يستخدم بالأساس من قبل سكان حارة الـمغاربة، التي دمرتها الجرافات الإسرائيلية في حزيران 1967ــ(2)، كما كان يربط الحرم الشريف بأحياء القدس الجنوبية (خاصة محلة سلوان).

من الـمعتقد بأن الباب الحالي بني خلال الفترة الأيوبية، وهي نفس الفترة التي شهدت وقف حارة الـمغاربة من قبل الأيوبيين على الـمغاربة (من أصول شمال افريقية أو أندلسية) الـمالكيين الـمجاورين في القدس، وقد استمر تراثهم بالتراكم في هذا الحي حتى عام 1967، حيث شردوا منها بتدمير حارتهم (3).

تاريخ النزاع على حائط الحرم الغربي

في الحقيقة لا نملك معلومات تاريخية حول كيفية بدء تقديس الجدار الغربي للحرم الشريف من قبل اليهود قبل القرن السادس عشر الـميلادي، وأغلب الروايات تتحدث عن ممارسة اليهود لطقوسهم من على جبل الزيتون باتجاه الـمدينة. ويبدو أن ممثلي اليهود قد تطلعوا للصلاة باتجاه الحائط الغربي في الفترة العثمانية (القرن السادس عشر الـميلادي). وبسبب التسامح العثماني، ولكونهم من رعايا الدولة، سمح لهم بممارسة طقوسهم الدينية في ساحة ضيقة، لا تتجاوز خمسة أمتار عرضا، وبطول حوالي 28 مترا. اصطلح على تسمية هذا الجدار بالاصطلاح العربي >حائط البراقحقهمالوضع القائمثورة البراقالوضع القائم

حرب حزيران 1967

لـم تتوان إسرائيل بعد انتصارها الساحق في الحرب عن تغيير كل اتفاقيات >الوضع الراهنالدولة صاحبة السيادةبكاملهاالقومية

باب الـمغاربة أولا

في آب 1967، وقبل مرور شهر على الاحتلال الإسرائيلي للقدس العربية، وقبل الانتهاء كليا من تدمير وتسوية حارة الـمغاربة، أمر وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك موشيه ديان، مدير أوقاف القدس، الـمرحوم حسن طهبوب، بتسليم مفتاح باب الـمغاربة (باب الحرم الشريف) للقوات الإسرائيلية. لكن الـمرحوم حسن طهبوب، وبالتشاور مع أعضاء الهيئة الإسلامية (الـمشكلة حديثا) رفض هذا الطلب، على اعتبار أن أبواب الحرم القدسي الشريف جزء لا يتجزأ من الحرم، الذي هو ملكية إسلامية خالصة، وأن السيادة الإسلامية عليه غير قابلة للنقاش وتضمنها كل القوانين الدولية، ومنها التاريخ الإسلامي الطويل للـموقع.

وفي 31 آب من نفس العام، حضرت قوة من الجيش الإسرائيلي الى مقر دائرة الأوقاف الإسلامية وانتزعت مفتاح باب الـمغاربة بقوة السلاح. وهكذا أصبح مفتاح الباب والباب ذاته تحت سيطرة القوات الإسرائيلية التي وضعت عليه قوة من الشرطة العسكرية الإسرائيلية. لقد اعتبر بعض الإسرائيليين (8) أن السيطرة العسكرية الإسرائيلية على باب الـمغاربة قد وضعت حدا لحلـم الـمتطرفين اليهود بالسيطرة على كافة أنحاء الحرم القدسي الشريف، في حين رأت الأوقاف الإسلامية أن الأمر يتمثل في كسر السيطرة الإسلامية الـمطلقة على الـموقع، وبداية للتدخل الإسرائيلي التدريجي، ليس فقط في إدارة الـموقع، بل في حرية العبادة ومن ضمنها حرية الوصول الى الأماكن الـمقدسة.

بدأت معركة شد الحبال بين دائرة الأوقاف الإسلامية والحكومة الإسرائيلية، بخصوص باب الـمغاربة، تأخذ أشكالا متعددة، تصاعدت بحريق الـمسجد الأقصى (21 آب 1969)، حيث ربطت الأوقاف الإسلامية الحريق بالسيطرة الإسرائيلية على باب الـمغاربة على اعتبار أن مسبب الحريق قد استخدم ذلك الباب (تحت نظر وسمع القوات الإسرائيلية) لتهريب الـمواد الحارقة التي استعملها في إشعال السقف الخشبي لسطح الـمسجد وقبته، وبذلك طالبت الأوقاف استرداد سيطرتها على الباب. سارعت إسرائيل الى إغلاق باب الـمغاربة خشية دخول إسرائيليين الى الحرم والدخان يتصاعد من الـمسجد، كما سارعت الأوقاف الى إغلاق كافة بوابات الحرم أمام غير الـمصلين الـمسلـمين، وربطت بين إعادة فتح الحرم أمام الزوار غير الـمسلـمين بإعادة سيطرتها على باب الـمغاربة.

خشيت إسرائيل ان تكون الأوقاف الإسلامية قد تمكنت، بحكم الأمر الواقع، من استعادة سيطرتها على الحرم متذرعة بحريق الـمسجد الذي ألهب مشاعر الـمسلـمين في كافة أنحاء الـمعمورة. لقد وصلت أهمية الأمر حدا دعا الحكومة الإسرائيلية الى عقد جلسة لـمجلس وزرائها بتاريخ 19 تشرين أول 1969 لنقاش الأمر بشكل مطول، واتخذت قرارا بفرض فتح الحرم أمام الزوار >لإعادة الحياة الطبيعية لهذه الـمنطقة…يكفي أن نقول ان دائرة الأوقاف الإسلامية، وهي صاحبة الدائرة الـمختصة بحماية الـمسجد الأقصى، لا تملك الإشراف الفعلي على مداخله وأبوابه، فما زالت السلطات (الإسرائيلية) تحتفظ حتى هذه اللحظة بمفتاح أحد الأبواب الرئيسة وهو باب الـمغاربةالأمر الواقعان عملية فتح وإغلاق أبواب الحرم الشريف هي حق مطلق للـمسلـمين

تحولات درامية

بقيت مسائل الصراع على السيادة على الحرم الشريف محورا أساسيا في تاريخ القدس منذ عام 1967، تخبو وتشتعل، تبعا لتطورات الأحداث والأوضاع العامة في الـمنطقة، ومدى قدرة الحكومة الإسرائيلية على مراكمة الـمزيد من الـمكاسب السيادية التي بدأتها في باب الـمغاربة. وكما نعلـم جميعا فان الـمحاولات الإسرائيلية لتوسيع سيطرتها على كل مدينة القدس قد ازدادت عقب اتفاقيات أوسلو عام 1993، محاولة بذلك فرض أمر واقع واستباق نتائج الـمفاوضات النهائية (ومنها التفاوض على مستقبل القدس)، عبر زيادة رصيدها بالسيطرة على الأراضي وفرض الـمزيد من رموز السيادة (13) الإسرائيلية. ومن الـممكن الاعتقاد، بالرغم من موافقة إسرائيل في كل من مفاوضات كامب ديفيد الثانية وما تبعها من مفاوضات في شرم الشيخ ومعايير الرئيس الأميركي السابق كلينتون (14)، على التفاوض على مستقبل القدس عبر تقسيم الـمدينة الى منطقتي سيادة إحداها إسرائيلية والأخرى فلسطينية، لـم تصل الى مرحلة الجدية، بل جاءت الـموافقة على مبدأ تقسيم الـمدينة إلى مدينتين على سبيل الـمماطلة للانتهاء من مخططها التهويدي، لتصل بالـمدينة الى حالة يصعب تقسيمها.

وفي عام 1997 بدأت دائرة الأوقاف الإسلامية، بدعم من مبادرات شعبية، بمبادرة جريئة لترميم إسطبلات سليمان (15) (أصبحت تعرف الآن بالـمصلى الـمرواني)، والتي تقع بالزاوية الجنوبية الشرقية لـمنطقة الحرم الشريف، والتي تبلغ مساحتها حوالي 4500 متر مربع، كلها دون مستوى الـمسجد الأقصى، وبالتالي الحصول بذلك على مسجد ثالث تفوق مساحته الـمسجد الأقصى وقبة الصخرة مجتمعين، موفرا مكانا ضخما إضافيا للـمصلين (حوالي 000ر01مصل)، وقاطعا على الإسرائيليين خططهم بالدخول الى الحرم الشريف وتحويل جزء منه الى كنيس يهودي، خاصة وأن الـمصلى الـمرواني يرتبط مع خارج القدس مباشرة بعدة بوابات مغلقة، من السهل فتحها، وربطها بساحة البراق.

تجدد بهذا العمل الصراع السيادي على الحرم الشريف، وكان الـمدخل الإسرائيلي هو سلطة الآثار الإسرائيلية، التي لـم توافق دائرة الأوقاف الإسلامية على تدخلها في أعمال الترميم وفتح البوابات للـمصلى الـمرواني منذ بدء العمل. وتمسكت الأوقاف بحقها الـمطلق بالقيام بكافة أعمال الترميم والإعمار للحرم الشريف على اعتبار أنها صاحبة السيادة الـمطلقة، وعلى اعتبار أن قوانين الآثار الانتدابية والأردنية السائدة (16)، لا تبيح لسلطة الآثار الأردنية التدخل بشؤون الأماكن الـمقدسة، التي هي حق مطلق للجهة الدينية الـمالكة لها، وفي حالتنا هذه دائرة الأوقاف. أثارت إسرائيل زوبعة كبيرة، شملت الحكومة وأعضاء الكنيست و>خبراء الآثاراتفق

تلة باب الـمغاربة

أثيرت أخيرا مسألة قيام إسرائيل بإزالة التلة الـمؤدية إلى باب الـمغاربة والتخطيط لبناء جسر زجاجي بدلا منها، ما أشعل القدس وفلسطين وأجزاء أخرى من العالـمين العربي والإسلامي، فما هي حقيقة الأمر وما هي الآثار الـمتوقعة من هذا العمل؟

التلة الـمذكورة هي الطريق الـمتبقية من تدمير حارة الـمغاربة، والتي أصبحت تربط ساحة البراق بالحرم الشريف، وهي في جزئها الأول عبارة عن ركام، وفي جزئها الثاني العلوي ما تبقى من الطريق القديمة، والتي يعود تاريخها على أقل تقدير إلى الفترة الأيوبية، ان لـم يكن قبل ذلك. تعرضت فعلا هذه التلة إلى عوامل الحت والتعرية الطبيعيين، مما أدى في نهاية الـمطاف إلى تآكل جزء منها خاصة أثناء شتاء 2005. وبدلا من القيام بصيانتها وترميمها، وهذا سهل وممكن بالقليل من الامكانات والتكاليف، استغلت إسرائيل الفرصة واستندت على >الحفاظ على أمن الجمهور

الخاتمة

يحتاج الحرم الشريف الى دراسة متكاملة لتتبع الـمحاولات الإسرائيلية للهيمنة على هذا الـموقع الحساس، الذي تعاظمت أهميته أثناء الصراع، حيث تجاوزت مكانته البعد الديني الى أبعاد وطنية سياسية في غاية من الأهمية. ان تتبع حالة باب الـمغاربة، كحالة دراسية، يلقي الضوء على الآليات الـمختلفة التي استخدمها الاحتلال الإسرائيلي في السيطرة على الأماكن الدينية. ويمكن في هذا الصدد، باستخدام الـمعايير نفسها، دراسة حالة الحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل، وحالة مقام النبي صموئيل في القدس، وقبة راحيل في بيت لحم، وقبر النبي يوسف في نابلس، ونماذج أخرى.

تحول مفتاح باب الـمغاربة الى >مسمار جحاشراكة< على الحرم الشريف، لينتهوا في مفاوضات كامب ديفيد بالـمطالبة بشراكة في السيادة على الحرم الشريف، والـمطالبة باعتراف فلسطيني بالعلاقة الدينية والتاريخية التي تربط يهود العالـم بالـموقع، الأمر الذي سيؤدي، ان تم، الى الـمطالبة باستحقاقات ما بعد الاعتراف من تجسيدات مادية له.