دروس من تاريخ دعوة حرة

Cover Image for دروس من تاريخ دعوة حرة
نشر بتاريخ

1-  استمرار رغم الحصار:

رغم حصار الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله الذي بدأ يوم 30 دجنبر 1989، وعسكرة البوليس حول منزله بحي السلام بسلا، والمنع القاطع من زيارته إيذانا بفرض الحصار، ووضعه تحت الإقامة الجبرية، واعتقال أعضاء مجلس الإرشاد رحم الله المتوفى منهم وبارك لنا في الأحياء منهم، ومعهم الأستاذ عبد الله الشيباني (عضو مجلس الإرشاد لاحقا) ـ والحكم عليهم بسنتين سجنا نافذا يوم 13 يناير 1990، واعتقال الطلبة الاثني عشر، استمرت جماعة العدل والإحسان في نشاطها رغم إرغام المخزن المشرفين على الجماعة في المدن المغربية على التوقيع على حلها (رغم أنها جمعية قانونية التزمت كغيرها من الجمعيات بمقتضيات قانون تأسيس الجمعيات والحريات العامة) لم يثن ذلك أبناء الجماعة عن الاستمرار في التواصل والاجتماع على الله في مجالس الإيمان وعقد رباطات تربوية في البيوت، تغذوها روح المحبة في الله.

2- المحبة في الله عطاء لا ينقض بتوقيع!

الحل الإداري للجماعة بإرغام أعضائها على التوقيع لتجميد أنشطتهم التربوية والدعوية كانت له نتائج عكسية لم يتوقعها المخزن:

أ‌- وسع شعبية الجماعة وحضورها في الجامعات.

ب- تشكلت نواتها التنظيمية في كبريات المدن المغربية.

كان الشامتون بدعوة العدل والإحسان يريدون استئصالها ويعتقدون أن الجماعة لا تعدو أن تكون هياكل تنظيمية وبرامج وأوراقا واجتماعات فقط! لكن الأمر أعمق من ذلك، فلقد حرص مؤسسها رحمه الله على أن تسري في روح بنيتها التنظيمية معاني تفتقدها التكتلات الحزبية المألوفة: من أخوة في الله وتواصل في الله وتحاب في الله وتناصح في الله وما يصطلح عليه الإمام المجدد رحمه الله بـدستور المحبة 1.

3- شعار بين الصدق والصواب:

في خضم القمع البوليسي ومضايقة من يزور المرشد رحمه الله ويتواصل معه، اغتنمت الجماعة فرصة عيد الشغل المحتفى به عالميا يوم فاتح ماي 1991 2 للخروج إلى الشارع في كبريات مدن المغرب، ورفع شعارات تطالب برفع الحصار عن مرشدها وأعضاء مجلس إرشادها المسجونين ظلما وعدوانا، بالإضافة إلى الشعارات الاحتجاجية المطلبية المرتبطة بالقطاعات النقابية وقضايا الأمة كالقضية الفلسطينية وقضية الشعب العراقي.

ومن الشعارات التي انفرد بها ثلة من أعضاء الجماعة والمتعاطفون معها بمنطقة شمال المغرب وكان أغلبهم شباب: “بالروح والدم نفديك يا ياسين… بالروح والدم نفديك يا ياسين…”! لكن، هل كان الشعار متساوقا مع منهاج دعوة العدل والإحسان ومقتضياته؟ نكتشف الجواب لاحقا !

4- المرشد المحبوب:

لا أحد ينكر مدى حب الشباب لمرشدهم، وشعورهم بمرارة المظلومية وحرمانهم من حقهم في التواصل المباشر معه، إنها معاناة ذاقها من عاش تلك الحقبة الصعبة من تاريخ الجماعة، حيث كان الإعلان عن الانتماء إليها يقوم على التوكل على الله أساسا، والإعراب عن برهان الصدق في صحبة رجل عارف بالله ومجاهد رباني – و لا نزكي على الله أحدا – يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم، والاقتناع بمشروع جامع بين الخلاصين: الفردي لكل من له حاجة إلى الله، والجماعي لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

“بالروح والدم نفديك يا ياسين…”!؛ كان هذا الشعار تنفيسا انفعاليا غضبيا ضد من يريدون فصل رأس الجماعة عن جسدها، وإبعاد الملتفين المنجذبين بهيبة التقوى ووقار الصدق الذي أكرم الله به الإمام رحمه الله. وانتقل الإمام المرشد إلى جوار ربه، وما زالت دعوة العدل والإحسان محاصرة، يكرهها الذين لا يحبون الناصحين، ولا يريدون أن يُسمع عنها خبر!

5- نفديك يا إسلام:

لما شاهد الأستاذ المرشد شريط فيديو مسيرة فاتح ماي، وسمع ما صدعت به قلوب الشباب وحناجرهم من ولاء واستعداد لفدائه بالدم والروح، أرسل رحمه الله توجيها مكتوبا يرشد به فهم هؤلاء الشباب الصادقين في حبهم له – وكيف لا يحبونه وكله رحمة ورفق وحكمة؟ – لـكن هؤلاء المحبين لم يكونوا صائبين في اختيار الشعار المناسب لاحتجاجهم، وغير مستوعبين لمشروع تجديدي يهدف إلى إحياء الأمة، مشروع أكبر من مداركهم وتجاربهم الإيمانية والحياتية. قال رحمه الله معلقا على الشريط بعد كلام:

“لا تقولوا بالروح والدم نفديك يا ياسين، بل قولوا بالروح والدم نفديك يا إسلام. أَخُمَيْنِيُّونَ أنتم؟“. 

6- هداية شباب مسترشد بالمجدد:

رمزية الإمام الخميني رحمه الله كانت حاضرة بقوة في مخيلة الإسلاميين الشباب ونظرتهم للتغيير، إيران آنذاك كانت حريصة على تصدير ثورتها إلى العالم العربي والإسلامي، وكان لأدبياتها الجهادية جاذبية ثورية تستهوي الشباب المحبط والمتشكك في مصداقية إيديولوجية الصراع الطبقي، والمقبل على دينه بطريقة تحرره من إسلامه الوراثي، رمز التخلف والرجعية والانتماء الفاتر الخامل للدين، المدعم للفساد والاستبداد بأرض المسلمين. إنها هداية شباب تبحث عمن يرشدها!

من شباب الدعوة من وجد ملاذه في التشيع منذ تلك الفترة وأسقط واقع الشعب الإيراني وعلمائه الأحرار المضطهدين من طرف الشاه محمد رضا بهلوي (استمر حكمه من 1941 إلى 1979) وثورتها الإسلامية و”مذهبها الشيعي”، على الواقع المغربي المحكوم بقبضة من حديد بنظام مخزني يعتمد “المذهب المالكي” كسند لمشروعيته الدينية!

كما أن السمعة السياسية للجماعة بمواقف مرشدها رحمه الله التاريخية خصوصا الرسالة الموجهة إلى الملك الحسن الثاني رحمه الله “رسالة الإسلام أو الطوفان”، والتفاف الشباب حوله أثناء محاكمته، وسجنه الثاني لمدة سنتين بسبب نشره “رسالة القرن الملكية في ميزان الإسلام”، أكسبها سمعة سياسية داخل المغرب وخارجه، فاقت حجم الجماعة الحقيقي “آنذاك” من حيث مؤسساتها وعدد أعضائها والمؤطرون والبرامج… كان الإمام يذكر فضل الله على هذه الدعوة ويعلق وهو يبتسم رحمه الله قائلا: “صوتنا أكبر من حجمنا”!

ومن أهداف مشروع الإمام المجدد – رحمه الله – التجديدي: اقتحام عقبة الفتنة التاريخية، والفتنة كما يقول رحمه الله: “اختبار له معنى ومغزى وهدف، يريد الله عز وجل به أن يبلونا أينا أحسن عملا. يبلونا فرادى وجماعة، تأتي الفتن التاريخية على ميعاد بين قدر الله وانحطاط العباد عن مقتضيات الإسلام لتؤكد سنة الله وتثبتها وتعطيها طابع الاستمرارية والصرامة”. 3

من العلماء المسلمين من أدركوا خطورة استغلال من يكرهون الدين للتباعد بين المذاهب الإسلامية وإشعال نار الحروب الطائفية، وألفوا كتبا منها “المراجعات” ساهمت في تقارب علمي بين الشيعة والسنة إلى حد ما، لكنها افتقدت إلى مشروع تربوي شامل يعيد صياغة الشخصية الإسلامية المتطلعة لمستقبل إسلام يهتدي ببشارة عودة الخلافة الثانية على منهاج النبوة، وافتقر رواد المراجعات، جزاهم الله خيرا، إلى إرادة سياسية قوية تؤتمن على ترجمة التقارب بين المذاهب الإسلامية إلى واقع في حياة المسلمين.

يقول الإمام المجدد رحمه الله :

“وليس العيب في إخوتنا الشيعة ومن جانبهم، لكن العيب من جانبنا أيضا، من سلاطين العض قارونات العصر ويزيداته الذين ينفقون أموال المسلمين بسخاء المبذرين وحنق الموتورين لتنشر كتب الثلب في الشيعة، ولتحفر الخنادق بيننا وبينهم، ولتشعل نار الفتنة. وهكذا يجتر الكتبة الخلاف القروني وينظرون في كتب الطعن على الروافض ليبثوا الوقيعة بين المسلمين، وليلتحموا مع الشيعة في نزال دائم بعثوه من القبور، ونفخوا فيه البغضاء المتجددة”. 4

تدبير معالجة الصراعات المذهبية بين الشيعة والسنة استعدادا لمستقبل الإسلام باب من أبواب الجهاد الأساسية، “ولو لم يكن في قُطْر ما من أقطار الإسلام إلا مذهب واحد، سني أو شيعي، فهنالك دواع للخلاف كثيرة ينبغي أن توضع لاحتوائها وتوجيهها وتنظيمها حدود تتيح للناس حرية الاجتهاد في غير فوضى ولا افتيات على الدين”. 5

“أخمينيون أنتم؟”؛ سؤال يوقظ المقلد من غيبوبته التاريخية، ويحمله مسؤولية التجديد وفق زمانه ومكانه وأحوال عالمه الذي أصبح قرية صغيرة يهيمن على خيراتها ويتحكم في مصير شعوبها من يملك القوة الاقتصادية والعسكرية والتكنلوجية المسترقة لقيمة الإنسان وحرية إرادته.

كان درسا عمليا يدعو شباب الدعوة عموما إلى التحرر من التعصب، وشباب العدل والإحسان خصوصا لإعادة قراءة مشروعهم وتعميق فهم أصوله، وكيفيات تطبيقاته التفصيلية وفقه سنة الله. وقل ربي زدني علما، والله غالب على أمره.

 


[1] في الحديث القدسي قال الله عز وجل: “حقت محبتي للمتحابين فيّ، وحقت محبتي للمتواصلين فيّ، وحقت محبتي للمتناصحين فيّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيّ، وحقت محبتي للمتباذلين فيّ، المتحابون فيّ على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء”. أخرجه أحمد.
[2] فاتح ماي 1991: الجماعة تشارك بمشاركة كبيرة في مسيرات عيد العمال العالمي، وذلك في مدن الرباط، وفاس، وتطوان، ووجدة، والبيضاء، ومراكش، وأكادير. وقد امتازت هذه المشاركة الواسعة بالتنظيم المنضبط، والسلوك المسؤول، والشعارات المتميزة المنددة بالظلم والاستبداد والحصار المضروب على الأستاذ المرشد. كما شاركت الجماهير الطلابية بالدار البيضاء في مسيرات فاتح ماي في إطار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وبقيادة طلبة العدل والإحسان.
[3] الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله ،سنة الله ، ص: 33.
[4] الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، العدل ، ص: 442.
[5] الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، سنة الله،ص: 326.