سلّمت على الإمام المجد رحمة الله عليه، وجلست بين يديه حاملا إليه رسالة من إخواني المرابطين في رباطاتهم التربوية، وكلهم شوقا إليه، تحذو الجميع رغبة سماع كلمة توجيهية من مرشدهم، ونصائح تكون لهم زادا ونبراسا. تأملني مليا ثم قال: “كل ما عندي قلته لكم، فهو منثور في كتبي، ومسجل عندكم في أقراص، عودوا إليها، ودعوني أستعد لآخرتي”.
ما أن بلغت هذه الكلمات سمعي حتى اهتز لها كياني من أعماقه، وزلزلت زلزالا شديدا، لأني أدركت آنذاك أنها كلمة مودع، وأن الرحيل قد اقترب أجله. حبست دموعي في أجفاني، وتركت قلبي يتفطر كمدا، ويبكي شجونه، وسمعت من داخلي صوتا يذكرني بالحقيقة الأزلية “أحبب من شئت فإنك مفارق له”.
وكل بساط عيش سوف يطوى.. وإن طال زمان به وطابا
كأن القلب بعدهم غريب.. إذا عادته ذكرى الأهل ذابا
يقول مصطفى صادق الرافعي: “أعرف أنهم ماتوا، ولكني لم أشعر قط إلا أنهم غابوا، والحبيب الغائب لا يتغير عليه الزمان ولا المكان في القلب الذي يحبه مهما تراخت به الأيام. وهذه هي بقية الروح إذا امتزجت بالحب في روح أخرى تترك فيها ما لا يمحى لأنها هي خالدة لا تمحى”.
أي رجل أخرج للناس في هذا الزمان؟ تلك هي القصة، فلنبدأ شجونها من البداية والتي يحدثنا عنها الإمام المجدد: “حصل لي يأس شديد من نفسي وتوقان لمعرفة الحقيقة عن وجودي”، و“كانت أزمة روحية لم يستطع من يعرفونني أن يميزوا بينها وبين الأزمات النفسية المرضية.”
تداركته عناية الله وألطافه، فهيأ له الطريق ليكون اللقاء مع الشيخ المربي سيدي العباس رحمه الله الذي استضافه بمدينة وجدة، ماكثا معه ثلاثة أيام “وفي أول مجلس معه رحمه الله ذقت الحال… ورجعت من ضيافة حضرة الشيخ في حالة لا أجيد التعبير عنها، يكفي أن أقول إني انتقلت من حالة الغفلة الدوابية إلى حالة يقظة وذكر.”
لكن اليقين الذي استقر في روع الإمام المجدد وآمن به، أن السير إلى الله يتم بجناحي العدل والإحسان، وبهما معا، أن هذا الدين ليس فقط حبا وصبابة، وليس انزواء في ركن شديد، وأنشد في قطوفه منبها:
حبذا هذه الصبابة لكن.. ليس تكفي صبابة العشاق
اتبعه إن كنت فيه محبا.. بجهاد قومة وسباق
كان الموقف من النظام واضحا، لا لبس فيه، ومنذ البداية من خلال الرسالة المشهورة “الإسلام أو الطوفان”، هذه الرسالة التي أحيت لنا سنة علمائنا العظام في القيام بالنصح للحكام دون خوف أو وجل، وكانت أمنية صاحب الرسالة الفوز بالشهادة: “ولست والله أخافك، وإني أشتهي الشهادة في سبيل الله، لكن أكره أن يكون خصمي بين يدي الله من ذرية رسول الله… وإن جوار حمزة بن عبد المطلب في رضى الله لمطمح عال وموعد صادق” (الإسلام أو الطوفان).
فقال للملك الراحل الحسن الثاني كلمة الحق التي دونها تتطاير وتتساقط الرؤوس في زمن القمع والرصاص، والانقلاب الذي آمن به قوم للخلاص من النظام القائم، كان الإمام يعلن كفره بهذه الوسائل الدموية، وأنه لا خلاص إلا بتربية الإنسان الذي سيقع على عاتقه مسؤولية التغيير، كفر بالانقلاب الذي قد يطيح بحاكم مستبد، ويحل محله طاغوت تستمر معه معاناة الشعب الذي يحلم بالانعتاق من كل القيود الظالمة.
خرج الإمام المجدد من بين الجموع الراجفة وحده لا يحمل معه إلا كلمة الحق التي يواجه بها الاستبداد محملا إياه مسؤولية ما وصلت إليه البلاد من ضياع وفساد: “ونحن اليوم بطغيانك يا سيدي الملك، وحضانتك للطغاة تحكمهم فينا، وبتفاهة ديدانك من القراء في مضيعة ما وراءها ضياع” -الإسلام أوالطوفان- مطالبا إياه برد المظالم، وإرجاع أموال الشعب إلى بيت المسلمين لبناء وطن حر مستقل.
لكن الاستبداد الأعمى المستغرق في عبادة الذات وتقديسها، لم يكن ليسمح أن يمر هذا الحدث دون أن يلقى صاحب الرسالة جزاءه. فقالوا مجنون وازدجر، فكان الحكم أن يسجن في مستشفى الأمراض العقلية دون محاكمة. وسيكون الإمام المجدد على موعد مع اعتقال جديد، ليقضي وراء القضبان بسجن لعلو بالرباط سنتين نافذتين، مع مصادرة العدد الأول والأخير من جريدة الصبح.
وقد قضى رب الدعوة أن يكون الأسلوب الأمني القمعي الذي ارتضاه المخزن لاجتثاث الدعوة من جذورها، سببا في تجذرها وانتشارها.
حار سدنة المخزن وحراس المعبد أمام هذه الدعوة وصاحبها، لم يبق أمامهم إلا إلقاء آخر ما في جعبتهم من مكر يشيب له الولدان، فكان قرار فصل الرأس عن الجسد فظنوها القاضية، فكان الحصار الذي استمر عقدا من الزمن ليضطر خبراء الشر بعد وفاة الملك عن إعلان إفلاس هذا الاختيار، ويرفع الحصار عن الإمام المجدد، ويتكرر المطلب بإرجاع أموال الشعب إلى الشعب ويطلب منه من خلال رسالة تحمل عنوان “مذكرة إلى من يهمه الأمر”: “كَفّر عن مظالم أبيك المسكين، وخفف عنه الحساب العسير، رد إلى شعبك ما سلب منه، وكفر عن خطاياك، وخف ملك الملوك، والله يتولى الصالحين”.
رفع الحصار عن الإمام المجدد الذي لم يترك الفرصة تمر دون تنظيم زيارات متعددة في كل الأقاليم والمناطق، لتسليم الأمانة إلى الأجيال الجديدة وكله إيمان أن هذه الفسائل ما ينبغي إهمالها ولو قامت الساعة، وهي التي ستحمل المشعل وتواصل الطريق، وهم الذين جاؤوا بعد سنوات من كل فج عميق ليشهدوا جنازة الإمام المجدد، ويرفعوا نعشه فوق أكتافهم ويعلنوا للجميع:
حفظت العخد ما خنت الأمانة.. فحفظ العهد أصل الديانة
نذرت دمي دفاعا عن حماها.. ورفضا للخنوع والاستكانة