كان العياشي رجلا ذا عيال، يعمل إسكافا في دكان ورثه عن والده وسط حي يضج بالناس والباعة. كان رجلا وفيا ذا كلمة، وغيرة على البلاد والعباد، وروح مرحة ساخرة رغم بلوغه الستين. صار قبلةً لسكان وأحذية الحي مسقط رأسه، رغم صلابته الناتجة عن نشأته في كنف والِدَيْن ترعرعا في شظف البادية. إذا تشاجر مع أحد ندم على ما صدر منه بُعيد ذلك، وتحيّن لقاءه لمصالحته والحديث إليه، مع أن الناس كانوا دائما يميلون إلى تبرئته.
كان إذا تفرّس في مُخاطبه صدقَ القول وحَدَسَ رغبتَه في الكلام، يُضاحِكه ويَتَبَسّط إليه، ثم يسْتَجْلِسُه مُلتمِسا منه الدخول إلى الدكان، مُستدرجا إياه للحديث عن خبايا الحي ومخازي المدينة، بينما ينهمك هو في الخرز والتطريق.
وتمضي الأعوام، فتصير للعياشي جلسة يومية بعد صلاة العصر مع زمرة من أصدقائه الشيوخ داخل الدكان، وجُلـُّهم من قُدماء الجند، وممّن بعثتهم الدولة لخوض الحرب الأهلية الإسبانية في الثلاثينات من القرن العشرين؛ تعرفهم برؤوسهم الحليقة حتى الصفر، وطرابيشهم التقليدية الصوفية المحلية. كان الأصدقاء يتناقشون غالبا حول قضايا المغرب الذي ينطقون ميمَه مضمومة، أو يُنصِتون لحكاية أحدهم حول واقعة من واقعات المدينة أو الحي. وكانت تلك الجلسة من أمتع أوقات العياشي، وكانت تمتد من أعقاب صلاة العصر حتى أذان المغرب. حينئذ يتوجه الصَّحب جماعة إلى مسجد الحي، فيُصلّون المغرب ورواتبَها، ثم يقرؤون جماعةً الحزبَ المقرر، ثم يواصلون بين ذِكْر وهمهمة وقراءة إلى أن يؤذّن المؤذن لصلاة العشاء، فيصلـّون ثم يفترقون، عدا العياشي فإنه يعود إلى الدكان بين الصلاتين..
وها هم ذات أصيل حار في بَرْد الدكان ونَسْم الجِلد، يتندّرون بفضائح الحي وعجائب المدينة، تتناثر وسطهم عباراتُ السخرية وتعليقات العَجَب من فِعْلٍ أو موْقفٍ لأحدهم لم يَعْهَدوه، ولا طاف بخيالهم في يوم من الأيام..
هذا ولـمّـا كان موعدُ الانتخابات الجماعية وشيكا، وضوضاءُ المرشحين تُحيط بالجميع من كل جانب، وكانت أحاديث السياسة تجتذبهم جذبا، لم يجد العياشي بُدّا من أن يقصّ عليهم إحدى عجائب هذه الانتخابات. فقال لأصحابه وهو يدُكُّ جانبَ حذاءٍ بالمسامير، هو الذي وهبه الله من قوة الحافظة وحضور الذهن ما جعله يَبُزُّ أصحابَه في الرواية وأخذ الكلمة:
– انصتوا جيدا، سأروي لكم واقعةً أَعرِفُ صاحبَها تمام المعرفة.
فصمتوا جميعُهم مبشوشين منشرحين، يقرِص أفئدَتهم حبُّ الاطلاع.
قال العياشي:
“حميد شاب في السابعة والثلاثين. معتدل القامة، بسيط اللباس، وبلا عمل. يبدو غائصا في عالم نفسه، يعرف الناس ويعرفونه، لكنه لا يُرى إلا منفردا، جوّابا للشوارع والأزقة كأنه في بحث دائم عن شخص أو شيء ما. إذا استوقفه أحدهم لغرض، بادله كلمة أو كلمتين، ثم تابع طريقه بنفس الخُطى. أما إن أراد التعبير عن فكرة إزاء موضوع أو قضية، فإنه يُلجْلِج العبارة في فِيهِ قبل أن ينطقها كلمةً في أثر كلمة. كان هذا دأبه مُذْ طُرد من المدرسة الثانوية قبل عقدين تقريبا، بعد رسوبه في امتحانات الباكالوريا مرتين. وهو ذكَر والديه الوحيد. وهو الوحيد أيضا الذي ما زال يسكن معهما في البيت، أما أخواته الثلاثة، فزُفِفْن الواحدة تلو الأخرى في حداثة سنهن إلى رجال يشتغلون في القطاع العام؛ فقد كان والده الذي قضى حياته عاملا مساعدا لأحد القصّابين الوجهاء، يأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه، لا يرفض موظفا طلب يدَ ابنته قط، مهما بلغ راتبُه..
ولهذا ولتنشئة والده بلا شك، شبّ حميد وقد ثبت في وعيه ثبوتا أبديا أن لا سبيل إلى العيش الهنيء وراحة النفس إلا امتهان إحدى وظائف الدولة، يحتمي بوضوح قوانينها، ودقة معاملاتها، وثبات نظامها، من كَبَسات السوق ونكساته، ومكر المتاجرين، وقهر رب العمل.
لا ينسى حميد ذلك اليوم غير العادي الذي هبّ فيه والده لتزويج شقيقته الجميلة، وهي دون السادسة عشرة، بموظف بسيط في إدارة البريد المحلية. وهي اليوم تحيا حياة هنيئة في حضنه بمعية طفليها الوسيمين، رغم القِلّة والعُسرة.
وهكذا لما صار حميد تلميذا في قسم البكالوريا، أمّل أن يعود مُدرسا من مدرسي الثانوية، إذ أُعجب بأحد أساتذته أيما إعجاب. وكان الأستاذ ذو الثانية والثلاثين يدرس الفلسفة وعلم النفس. وكان شابا ذكيا، مثابراً، مقبلا على العمل؛ وكان ذا نضارة، وبشاشة، وهيأة حسنة، ومعروفا بين التلامذة والزملاء بالدماثة ورحابة الصدر. وكان من عادته أن يفسح المجال لتلامذته، عقب انتهاء الحصة الدراسية، لطرح أسئلتهم حتى إن كانت بعيدة عن موضوع الدراسة؛ وكان حميد ممن يستفسرونه بكثرة، بعد أن ينفضّ جمع التلاميذ وجلّهم إناث من حوله؛ لكن رسوب حميد في السنة الأولى ثم الثانية جعل هذا المراد بعيد النوال. فبات يتمنى الحصول على إحدى الوظائف الإدارية الدنيا أيّا كانت طبيعتها.
ولقد استمرت علاقة حميد بمُدرّسه حتى بعد أن فُصل من الثانوية. رآه في مساء يوم من الأيام بعد عام من الطرد في الشارع الرئيسي للمدينة رفقة زوجته ذات الثامنة عشر ربيعا، وكانت من أنجب وأجمل بنات الثانوية، وهي من بنات الحي الذي يقطنه، فأقبل عليه مهنئا، غير مُبالٍ بنظرات البنت المنطوية على الدهشة، ثم تحدّث إليه قليلا ومضى..
وأمضى حميد عاما كاملا يتدبّر الحياة من مختلف جوانبها، ويُعمِل الفكرَ في نواميسها، يستطلع أسرار النجاح الدراسي، ويتقصّى عن خبايا النظام التعليمي والمدرسة. فذهب ذات يوم إلى لقاء أستاذ الفلسفة، فتحدث إليه طويلا، وناقشه في بعض النقط، وعارضه في أخرى، لكنه وافقه عند النهاية في معظم ما حدّثه به. وبان أنه اهتدى إلى أسس وضرورات السعي الذكي في هذه الدنيا القاسية، وأنه أمسك بخيوط النجاح الدراسي. فتقدّم السنة الموالية بثقة لاجتياز امتحان الباكالوريا كطالب حُر، إلا أنه رسب مرة أخرى، وبمعدل أدنى من سابقيه. فأعاد الكرّة بعزيمة ماضية وعُدّة وافية، من ضمنها حسبما يقال محاولة رشو مدير الثانوية التي احتضنت الاختبار، متأثرا بشائعة يُتهم فيها المدير بالجشع والفساد، غير أنه أخفق دون أن يتسرب خبر عن معاملته للمدير. فطلّق حميد الدراسة ومن يدور في فلكها، حتى إنه حسبما قيل كرِه المرورَ قدام مبنى الثانوية، وأضحى إذا سُئل عن مساره الدراسي ومستقبله يلعن الحظ العاثر، ويدعو على المرتشين.
وخلا عقد ونـيّف من الزمن تقريبا دون أن يحقق حميد حُلمَه الغالي. وكان جرّب التجارة خلال هذه المدة نصحه بها والدُه، لكنه فشل فشلا ذريعا، فخرج منها مثلما دخل إلاّ من درسٍ واحدٍ فقط، هو أنْ لا بد لمن يُريد الانخراط في التجارة من رأس مالٍ ضخم، وروغان ثعلب.
وظل حميد عاطلا بلا عمل، إذ لم يكن يتقن حِرفةً من حرف اليد، ولم يكن يرضى الاشتغال بشيءٍ لا يلائم رتبته الدراسية ومستواه الفكري. فكان لا يُرى خلال تلك الأعوام إلا جوّالا تيّاها، محملِقا تارةً في السلع والبضائع، وطوراً في واجهات المكتبات وأكشاك الصحف.”
ودهمَ العياشي صوتُ شيخ:
– السلام عليكم!
– وعليكم السلام، أهلا وسهلا، كيف حالك عمي عبد السلام؟
– الحمد لله. كيف حالكم؟ بخير؟
– بخير.. الحمد لله، قال معظمُ الحاضرين في الدكان.
وناول الشيخُ العياشي حذاءً خلَقا منسحق الكعبِ، ملتمسا منه أن يجد كعبا أمتن، ثم أضاف وهو يغالب ضعفا واضحا:
– لا تكتفي بأن تُثبّته بالغِراء، اسْتَعْملِ المساميرَ بكثرة.
– إن شاء الله، خَلّ بالَك، لكن ادخُل، ليس يوجد بيننا أضياف.
– لا، جزاكم الله بخير، عليّ..
– معي فقط بعض من أحباب الحي.
– عليّ أن أعود إلى البيت.
– لعلـّك تستعد لحضور إحدى الولائم.
– أعوذ بالله، في حياتي كلها لم ألبّ دعوة مرشح للانتخابات قط؛ ولَأَن أبيت طاويا خير من أن أطعم الحرام.
– اتّقِ الله يا عمّ عبد السلام، متى كان إطعامُ الطعام حراما؟
– دعْني، إن كان ذلك حلالا فاذهبْ أنتَ.
وأدبر الشيخ، فضحك العياشي وأصحابه، وأنشأ يذكر مناقب الشيخ، فقاطعه إثنان من جلسائه:
– نعرفه جيدا نعرفه، أتمم الحكاية، فالشمس تدنو من المغيب.
سأل العياشي:
– أين كنّا؟
فردّ أحدهم:
– قلتَ: إن حميد لم يجد عملا يزاوله.
– آه، نعم..
وأطرق العياشي لحظة وهو يمسك بالمطرقة، ثم تابع حكايته:
“قُلنا.. منذ ذلك الوقت وحميد بلا شغل. وعندما دقت طبولُ هذه الانتخابات، رأى أنها فرصته الأخيرة لتحقيق حلمه الذي راوده في عنفوانه. ورويدا رويدا تحوّل إلى الاعتقاد الجازم بأن النيابة عن الناس في القيام بالمصالح العامة والرئاسة عموما أفضل من التدريس، بل إنها أهنأ وأسمى وظيفة على الإطلاق.. وقد حرّكه بعض معارفه في الحي على خوض المعركة، إذ امتدحوا فيه التواضع والرصانة وحسن الإنصات، وزكّوه في النزاهة والتصوّن ونظافةَ اليد، وأشاد بعضهم بمستواه الدراسي، وأثنوا على والده، بينما وصفوا المرشحين الآخرين باللصوص والمنافقين والفجرة.
ولمـّا أنْ استشار حميد والده في الأمر، أبدى الوالد اندهاشا من رغبة ابنه المفاجئة، وأَكْبَرَ جلوسَه نائباً عن الحيّ في المجلس الجماعي للمدينة، وأقسم أن يُغيّر دينَه إن نجح. لكن حميد أبى الانقياد، ورأى في قول والده جهلا بمستواه الفكري، وقدرته على تدبير شؤون الحي. وظل يردد أنه رغم كونه لم يجرب العمل النيابي، فإنه يعرف السياسة جيدا، وأنه يتميز عن باقي المرشحين بالنزاهة والتواضع.
وتقدم حميد كمرشح بلا انتماء حزبي، فقُبل طلبُه. فشَرَع في الدعاية لشخصه معتزا بقبول طلبه من طرف المشرفين على الانتخابات. وانخرط بكُليته في وطيس الحملة الانتخابية منذ الأيام الأولى لانطلاقها. فطرق البيوتَ، وتحدث إلى شباب الحي عن السياسة والمستقبل، وعن الوظائف والطرق والتعليم، وجادل عن القضية برمتها، فدافع عن المعتقدين في الانتخابات، وهاجم من يدعون لمقاطعتها. وكان إذا تَعالَـم عليه أحدُهم في مضمار السياسة، أَفْحَمَه بذِكر أسماء بعض قادة العالم والمؤسسات الدُّوَلية وأسماء عدد من وزراء البلاد، وبالتعليق على أحداث العالم بما يُفيد أنها مدبّرة تختفي وراءها أسرار وشبكة معقدة من المصالح والعلاقات والمؤامرات، أو أنها ضربٌ من الصور الكاذبة تُعرض على الشاشات لقضاء مآرب أخرى، فنجح في كسب عطف فريق من الأغرار والأغفال والبُـلْه، الذين وعدوه بحمْل عوائلهم على التصويت لصالحه، ووعدهم هو بتوظيفهم.
وبعد أسبوع من انطلاق الحملة على المستوى الرسمي، تـناهى إليه أن سكان الحي ممن يعتزمون المشاركة في الاقتراع عازمون على التصويت لصالح مرشح آخر. فحام حوله الفشل، وطافت به الكآبة، وبدأ يفكر في الانسحاب، غير أنه لم يهدأ له بال، ولم يَصْفُ له أُفُق؛ فكان أن تماسك وتجلّد وطرد الوساوس، وخرج يطلب أخبار هذا المرشح الذي ظهر فجأة، فدُلّ على أرقى مقهى بالمدينة، فقصدها مبلبل الفكرة، مختلط الغاية.. فاستفسر بائعا يبيع الحلوى والسجائر جنب المقهى، فأشار إلى رجل بضّ قسيم بربطة عنق أنيقة، وشعر مُرجّل بذوق، يتلألأ وجهُه من السعادة والرضا وسط رفقائه الخمس، وجميعهم يتحدثون بصوت مسموع. فتضعضع لمرأى الرجل، وسقطت همتُه، وأظلم المستقبلُ أمام عينيه، فتسمّر في مكانه ينظر إليهم لحظات مكروبا محزونا، ثم قفل عائدا إلى الحيّ يتواجد..
وكان هذا المرشح الذي يُـنيّـف على الخمسين يمتهن التجارة في مواد البناء، وهو من أبناء الحي الأقدمين، لكنه غادره قبل سنوات إلى الدار البيضاء، واستقر هناك، ولم يعد يُرى إلّا في الأعياد، وفي بعض المناسبات العائلية، وخلال زيارته لأمّه.
وأكثر حميد من الحركة في الحي. وانطلق يحدث كلّ من يعرفه عن الرجل الخمسيني. وجعل يؤكد أن المرشح المنافس غريب عن الحي، وأنه من المتكبرين المتعجرفين والسراق الخونة. وعندما لا يوافقه شخص، ينفلت منه كالطلْقة دون أن ينبس بكلمة، ولا يعود إليه أبدا.
لكنه في أصيل اليوم الموالي، وكان ذلك قبل يومين فقط من الاقتراع، شعر حميد أن لا طاقة له بالتاجر، وأن الناس حسمت اختيارها له لا ريب. فدخل على والده وقبّل رأسَه، وأراد أن يحدثه عن مسار الانتخابات في الحي لكن الوالد أعرض عنه، متذرعا بانشغاله بتوفير الدواء لزوجته أم حميد المريضة، قائلا إن السياسة شغل من لا شغل له، وأن البلاد لم تكسب منها عوائد تذكر. فاندفع حميد إلى الخارج مغتاظا، فصادف شبانا يعرفهم قليلا يقفون في رأس أحد الأزقة، فابتدرهم قائلا: “هل تعتزمون المشاركة في الانتخاب؟”، فأجابوا بشيء من الخِفّة: “لا”. فقال حميد: “هذا خطأ كبير، يجب أن تشاركوا كي لا تدعوا الفرصة للصوص لينهبوا مزيدا من المال.” فعلّق واحدٌ منهم: “نهب المال سيبقى سواءٌ ذهبنا للتصويت أم لم نذهب”. فقال حميد: “لا أشاطرك الرأي، يجب أن تشاركوا في الانتخابات.. يجب أن تُصوّتوا على من يتواضع لكم، من يتواضع لكم. لعلّكم لا تعرفون قيمة التواضع. لـِمَ أخرج اللهُ عز وجل إبليسَ من الجنة؟ لأنه لم يكن متواضعا، لأنه لم يتواضع لسيدنا آدم.. ألا إن التواضع الحق هو هذا..”. واستلقى حميد على الأرض، وجعل يتقلّب في التراب مثلما تفعل البهائم حين تنتابها الحكّة، والشبان ناظرون إليه في صدمة واستغراب، ثم نهض، ومضى لحال سبيله وهو ينتخِل التراب من ثيابه.”
– استلقى على الأرض؟ سأل مستنكرا أحد الجلساء.
– أجل، الأمر كما سمعْتَ بلا مبالغة، ردّ العياشي.
فمن الأصدقاء من استغرق في الضحك، ومنهم من حوقل، ومنهم من استعاذ بالله من الشيطان الرجيم..
لحظتئذ رفع المؤذنُ صوته معلنا دخول وقت صلاة المغرب.