تحتل قضية التربية والتعليم مكانة أولى في اهتمامات كل الدول التي تنشد بناء مجتمع قوي في كل المجالات، وذلك إيمانا منها أن التربية والتعليم هي أساس بناء شخصية الفرد في أبعادها المختلفة، وهي المؤسسة للمبادئ والقيم التي يتأسس عليها المجتمع، فكل إهمال للتعليم وتهميش لأطره هو دليل على التخلف، لذلك فقد احتلت قضية التربية والتعليم مركز الصدارة في المشروع المنهاجي التجديدي للأستاذ عبد السلام ياسين، كما شكلت هذه القضية المدخل الهيكلي للتغيير، تغيير محوره الإنسان باعتباره الهدف والوسيلة، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “نظام التربية والتعليم هو العمود الفقري للدولة، وإعادة ترتيب هذا الجهاز ضرورة الضرورات في حياة الأمة. يجب إنشاؤه إنشاء جديدا، وصياغة قنواته، وسد منابع الفساد المحلقة فيه لإعداد أجيال العقيدة والعدل والفطرة، مسلحة بالمعارف العلمية التطبيقية” 1.
التربية والتعليم لهما دلالة خاصة، فـالتربية تقوّم وتنمي الفرد، وتربطه بالفطرة الأولى التي خلق الله النفوس عليها، والتعليم بمفهوم قرآني؛ يبتدئ من تغيير ما بالنفس لتعود إلى بارئها صافية مطهرة، لأن النفس الطاهرة المتحررة من عبودية ما سوى الله، تفسح المجال أمام العقل المتعلم المبدع لينطلق بنور العلم الذي يرسخ الإيمان في النفوس، ويقوى الإرادات ويعلي الهمم حتى تهفو لطلب الكمال، فالتربية والتعليم حسب المنهاج النبوي لهما هدفان أساسيان مترابطان: الأول غرس الولاء في النفوس؛ الولاء لله ولرسوله، والثاني إكساب النشء مهارات علمية وعقلية وعملية، تهيئانه للقيادة والريادة.
أولا- التربية والتعليم: التعريف اللغوي والمنهاجي
التربية “هي تبليغ الشيء إلى كماله” 2، وهي تنمية للمعارف والمدارك والمهارات وإعداد الفرد لمواجهة الحياة، وهي تحتاج إلى مرب هو شخص معلم مهذب. وقد جعل الإسلام غاية التربية جامعة، تهيئ الفرد للحياة الدنيا بحيث يكون نافعا، وترسخ فيه الإيمان وحب الخالق والعمل للآخرة، ويكون ذلك بمجاهدة النفس وترويضها على اتباع الحق وتجنب المعاصي والتطلع الدائم للقاء الله وهو عنك راض، فالتربية فيها عمل ومجاهدة وصبر ومصابرة، والتشبع بالقيم والفضائل وتثبيت الإيمان وتجديده يحتاج دائما إلى تعلم وتربية لتطهير القلب من أدرانه، وتصفيته من أكداره، حتى يتنور ويسلك إلى مدارج السالكين الراغبين في الوصول إلى الكمال.
لذلك فقد أولى المنهاج النبوي التربية عناية خاصة، لأن تغيير المجتمع ينطلق من تغيير ما بالأنفس، وهذا التغيير يحتاج إلى مداومة ومواظبة على التربية بداية ووسطا ودائما حتى إدراك الغاية، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: “فليست التربية هي التأديب على السلوك الاجتماعي فقط، وليست التربية تعليما فحسب، ولا عكس التعليم، وإنما التأديب على السلوك الاجتماعي جزء من التربية، والتعليم جزء منها” 3. فالأستاذ لا يحصر مفهوم التربية فيما يتعارف عليه في كتب علوم التربية، بل يجعل معناه مستقى من معاني التربية الإيمانية التي ربى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها، لأن المسلمين مراتب، وبواعثهم ونياتهم تختلف، فمهمة التربية تقريب المستويات، وتنمية الطموح، وشحذ الهمم نحو طلب المعالي: “التربية تنميةُ الإيمان والطموحِ. التربية صعود إراديٌّ وتصعيدٌ مستمر. التربية اقترابٌ من الكمال وتقريب. التربية قَدْحُ زِنادٍ في القلب والعقل، إشعالُ فتيلٍ، تعبئة طاقاتٍ فرديّةٍ لتندمج في حركية اجتماعية يَعْمَل فيها العاملون بجهْدٍ مُتكامِلٍ ينفع الله به الأمة” 4.
والتعليم في المنهاج النبوي لا ينفصل عن التربية؛ “الاهتمام بالناشئة لا ينفصل عن الاهتمام الكلي بالإنسان كما لا تنفصل التربية المغيرة للنفوس عن التعليم المغير للعقلية. تلك تنشل العادات السيكولوجية من مرضها، وهذه تنشل العقل من عاداته” 5. فالتعليم المرجو مرتبط بالتربية غير منفصل، مسهم في التغيير والبناء، يسهم في تحويل الأمة من الغثائية إلى الريادة والقيادة بحكمة وعلى بصيرة، تعليم يحرر الإرادات، ويفسح المجال للطاقات والكفاءات والمواهب، تحت مظلة القرآن الكريم، “أولا: تعليم وتربية تصل العبد بربه، وتخبره الخبر اليقين عن النبإ العظيم. ثانيا: تربية وتعليم ترفع إرادة المسلم والمسلمة وأخلاقهما إلى مطامح يبذل في سبيلها الجهد والمال. ثالثا: تربية وتعليم لتنشئة أحرار يمتنع أن يهينهم طغيان طاغ، يحكمون بما أنزل الله. أمرهم شورى بينهم. لا يعبدون أحدا إلا الله” 6.
وهكذا؛ فنظام التعلم يتخذ من محورية القرآن منطلقا ومرجعا، يبني العقول والأجسام، ويقوي الإرادات، ويجدد الإيمان، ويربي النفوس، كل ذلك من أجل بناء الإنسان المؤمن، سيرا على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم الذي تخرج من مدرسته الإيمانية الجهادية رجالا صنعوا تاريخا جديدا للإنسانية، وأسسوا حضارة الإسلام؛ حضارة التوحيد والتزكية والعمران الأخوي.
فما هي معالم التجديد التي رسمها الأستاذ عبد السلام ياسين لقضية التربية والتعليم؟ ما هي المنطلقات والأهداف؟ وما هي مواصفات النظام التعليمي المرجو؟ ما هي مخرجاته؟ وما هي العقبات المفروضة؟ وماهي التحديات المنتظرة؟
ثانيا- المنطلقات والأهداف
– المنطلق: الإيمان بالله والدعوة إلى منهاج رسول الله
إن المنطلق الأساس للفلسفة التعليمية في المنهاج النبوي لا ينفصم عن الرؤية التجديدية للأستاذ المرشد رحمه الله تعالى، فهو يمتح من أسس الإسلام ومبادئه، بحيث ينظر إلى تربية الفرد وتعليمه في أبعاده الثلاثة: الروح والعقل والجسم، وتشكل القيم الإسلامية وعلى رأسها التوحيد والتربية والعدل مدخلا أساسيا، إلى جانب حرية الاختيار، وضمان الكرامة، إلى غير ذلك من القيم الدينية الكونية الإسلامية التي تسهم كلها في بناء شخصية الفرد الذي عليه المعول في بناء مجتمع العمران الأخوي المتلاحم والمتماسك والمتطلع لغد التغيير الشامل. وبناء الشخصية يكون انطلاقا مما خطه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يلقن الصحابة والصحابيات رضوان الله عليهم أصول الإيمان والتوحيد، هذه الأصول التي تحرر الإنسان روحا وعقلا وإرادة، حتى يتطلع للمعالي في طلب الكمال الخلقي الإيماني سلوكا، والكمال العلمي خبرة ومهارة وإعمال فكر. يقول الأستاذ المرشد رحمه الله في حديثه عن المدرسة الإسلامية المرجوة: “تحتل الدعوة القلوب لتهيئ النفوس الفتية، فتلتقي الرغبة بالتوجيه التعليمي، وتتلقاه راضية مقتنعة منساقة لا مسوقة. منذ تعلَمُ النفوس الفتية ما قيمتها في الوجود، وما مصيرها، وما حاضر الأمة التي تنتمي إليها، وما فرصة المشاركة في إنهاضها” 7، هي مدرسة إسلامية منطلقها هو منطلق الرعيل الأول، تسري فيها روح الدعوة، بدءا من المعلم ثم كل من تولى مهمة التربية والتعليم، من أجل صناعة شعب واع قوي محرر من قيود الفساد والظلم والذلة لغير الله.
– الأهداف والغايات
في المنهاج النبوي، تنقسم الأهداف إلى قسمين:
أ- قسم مرتبط بإعداد الفرد المؤمن القوي الشاهد بالقسط، المستقيم في سلوكه، المتشرب لمعاني الإيمان، والمتشبع بقيم الانتماء لأمته ولدينه الإسلام، والذي يجعل ولاءه لله رب العالمين وحده لا شريك له. فهذا القسم تربوي نفسي، تتجسد مهمة المدرسة التربوية فيما تغرسه في نفوس الناشئة مبكرا، قبل أن تسبق إلى فطرة النفوس الفتية تربيات أخرى، وولاءات أخرى قد تلوث فطرتهم وتكدر طهار قلوبهم، ففي “المجتمع الإسلامي المتجدد لا ولاء يقبل إن لم يكن الولاء لله وحده لا شريك له” 8 ولاء لله وحده يلغي الولاء للأشخاص وللمؤسسات.
ب- قسم ثان: “تعليمي تدريبي عملي من شأنه أن يفي بالمقصود منه إن كان الباعث النفسي التربوي الولائي المؤسس في مكانه من التأصل والتمكن وقوة الدفع، وإذا كانت برامجه وجدواه العلمية وملاءمته للحالة الاقتصادية ملبية لحاجات المجتمع منفتحة عليها” 9، فهم مرتبط إذن بالتحصيل العلمي والمعرفي وبالمهارات والقدرات والكفايات المطلوب اكتسابها، لتلبية حاجيات الأمة على الصعيد الفكري والعلمي والاجتماعي والاقتصادي، في الحاضر والمستقبل، من أجل بناء مجتمع قوي على جميع الأصعدة. فأهداف التعليم أن تكون له جذور في عمق الإيمان بالله وباليوم الآخر وله نفع وجدوى ومردودية للأمة: “أولا: تعليم له جدوى، له خطة، له أهداف تسيره عقلانية ضابطة. ثانيا: تعليم له مردودية اقتصادية له خبرة بإدارة المال والأعمال. وثالثا: تعليم مرن يتكيف ويتطور ويبتكر ويبحث وينفق على ابتكار وبحث” 10.
ثالثا- المواصفات
– تعليم أصيل ومتحرر
هو تعليم أصيل لانطلاقه من قيم الإسلام ومبادئه ومن هوية الأمة الإسلامية، ونأيه عن التقليد ومحاكاة الغرب، وهو متحرر من الارتهان لإملاءات المؤسسات الدولية التي تخدم مصالحها فقط وتسعى إلى حمايتها، وهو نظام يحرص على التحرر من الربط القسري بينه وبين الاستبداد، وهو نظام متحرر من كل رَهْن يحد من قيامه بأهدافه وغاياته، ومتحرر من كل دعم مادي أو غيره يجعله محكوما ومأمورا من طرف المانحين، مطيعا لمن أعطى أو منح، وهو نظام يطمح أن يعيد قضية التعليم إلى حضن الأمة بعدما تنزع عنها المخالب الشرسة لكل متحكم مستبد. وهذا يقتضي أن يسهم فضلاء الأمة وعقلاؤها في نقاش مشترك يضع قضية التعليم على السكة الصحيحة، بحيث تخدم الاختيارات الأساسية للأمة والأهداف المسطرة انطلاقا من احتياجات المجتمع وتطلعاته، وهذا لا يكون إلا إذا تم تجاوز المختلف فيه، للنهوض بالتعليم وجعله أصيلا في أسسه، متحررا ماديا من كل تبعية، وهذا يقتضي إرادة اقتحامية جماعية تقوض دعائم الفساد، وتعبئ الأمة للبناء من أساس، وتسير بتدرج وحكمة وتبصر، فـ“لاريب أن تحويل التعليم من هيمنة الدولة، ومن لا مسؤولية التأميم، إلى تعليم يتكفل به ويرعاه التطوع والمسجد والمدرسة الحرة والجامعة والمعهد، عملية لا تتم بجملة عام أو عامين، بل ولا عقد أو عقدين. وإنما هي عملية بطيئة تصحب التغيير الإسلامي العام” 11.
خاتمة
إن النظام التربوي التعليمي الذي يقترحه الأستاذ عبد السلام ياسين طموح، وهو لا ينفصل عن مشروعه التجديدي المنهاجي، لأن حل معضلة التعليم لا تنفصل عن حل القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فالارتباط وثيق بينهما، فلا مناص من تخليص قضية التعليم من مخالب الاستبداد التي ما عادت تخفى جرائمه في كل المجالات، ولكنها في التعليم أدهى وأمر. فإفساد التعليم والعبث بتربية الناشئة هو مقامرة بمستقبل أمة ولعب بمصير مجتمع، وهذه النتائج الكارثية أصبحنا نراها رأي العين، ونعيش مخلفات نتائجها القاصمة للظهر البشري للأمة، لذلك فالخروج بالتعليم من المأزق القائم، يحتاج إسهام كل الغيورين والفضلاء في نقاش مجتمعي يعيد القضية التعليمية إلى أولوية الاهتمام، حتى نخرج المغرب من تخلفه المخزي، وخاصة مراتبه المتدنية في مؤشرات النجاعة في التعليم والتربية.
هو مشروع طموح يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية، وتكتل مجتمعي يعيد قضية التعليم إلى واجهة الاهتمام ويحررها من عبث الفساد والاستبداد.
[2] المعجم الفلسفي: جميل صليبيا، ج 52، ص 266.
[3] عبد السلام ياسين، مذكرات في التربية، ط 1963/1، دار السُّلمي للتأليف والترجمة والنشر والطباعة والتوزيع – الدار البيضاء، ص 9.
[4] عبد السلام ياسين، حوار الماضي والمستقبل، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص 84.
[5] عبد السلام ياسين، الإسلام غدا، ط 1973/1، مطبعة النجاح – الدار البيضاء، ص 738.
[6] عبد السلام ياسين، حوار مع صديق أمازيغي، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر، ص 117.
[7] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 2، ص 256.
[8] عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص 154.
[9] حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، م.س. ص 154.
[10] حوار مع صديق أمازيغي، م. س. ص 117.
[11] حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، م. س. ص 151.