استهل الصحفي المغربي سليمان الريسوني، مداخلته التي عنونها بـ”الشباب المغربي وأسئلة التغيير والتحرير” باستدعاء حدث يجلي متانة ارتباط الشباب المغربي ببلده، قال: “في يوليوز 1994 التقى بمدينة طنجة فلسطينيان وسوري وتونسي ومغربي بالكاتب محمد شكري؛ الفلسطيني الأول هو الروائي والصحافي إيميل حبيبي، الذي كان برلمانيا في الكنيسة باسم الحزب الشيوعي الإسرائيلي ورئيس تحرير جريدة الاتحاد لسان حال هذا الحزب، وهي الجريدة الوحيدة التي كانت زمن إيميل ناطقة بالعربية في فلسطين المحتلة. الفلسطيني الثاني كان هو المفكر هشام شرابي أستاذ التاريخ بجامعة جورج تاون الأمريكية. أما الثالث فكان الروائي وعالم الاجتماع السوري حليم بركات الذي قضى أزيد من ربع قرن أستاذا في نفس الجامعة جورج تاون. والرابع كان هو الروائي والمترجم التونسي المقيم في ألمانيا حسونة المصباحي. بينما كان خامس هؤلاء هو الشاعر المغربي محمد بنيس أحد رموز الحداثة الشعرية في العالم العربي”.
هذه اللحظة التي التقى فيها هؤلاء المفكرون والكتاب بالكاتب المغربي الطنجاوي محمد شكري وثقها المفكر الفلسطيني هشام شرابي في مقال له بعنوان: “محمد شكري في طنجة”، يقول رئيس تحرير جريدة أخبار اليوم سابقا في مداخلته التي شارك بها في الندوة الفكرية التي نظمتها جماعة العدل والإحسان في إطار أنشطتها لتخليد الذكرى الثانية عشرة لرحيل الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله اليوم الأحد 8 دجنبر 2024 حول موضوع ”الشباب ورهانات البناء والتحرير”. نقل منها المتحدث نقاشا دار بين شكري وإميل حبيبي، “يقول هشام شرابي، كان إميل جالسا إلى مائدة منخفضة، كان في نقاش حاد، محمد شكري كان يصف معاناته في مطلع حياته.. وإميل حبيبي يقاطعه بصوته الجهوري: لكن قل لي ما الأهم: لقمة الخبز أم أرض الوطن؟ نجلس ثم يرفع شكري صوته يقول: أنتم الفلسطينيون تريدون العودة، أتدري ماذا نريد نحن؟ نريد الهجرة”.
ويسترسل الريسوني ساردا: “في سبتمبر المنصرم وبينما تجاوز عدد الفلسطينيين الذين ماتوا بنيران الجيش الإسرائلي 40 ألفا لأنهم تشبثوا بوطنهم، ألقى آلاف الشباب والأطفال المغاربة أنفسهم في البحر وتسلقوا السياج الحدودي الشائك لدخول سبتة المحتلة”، ليعلق على الحدثين: “فلسطينيون يموتون تشبثا ببلدهم من أجل العودة إليه والمغاربة يموتون من أجل مغادرة بلدهم” ويتساءل: “أي عود أبدي هذا؟ بالمفهوم الذي يطرحه نتشه”.
ويقارن الريسوني حالة الشباب المغربي بين التاريخين فيقول: “الوضع الذي تحدث عنه محمد شكري في 1994 يتكرر في 2024 وبأسوإ مما كان عليه الأمر قبل 30 سنة، فالشباب الذين كانوا في 94 يجدون لنقلهم إلى الضفة الأخرى قوارب الهجرة السرية، أصبحوا في 2024 يلقون بأنفسهم في البحر فوق الأسلاك الشائكة”، الأمر إذن حسب المتكلم “ليس نزوة شباب مغامر أو مغرر به كما تقول الرواية الرسمية، بل إن الوضع الذي عرفه المغرب منذ تصريح محمد شكري يتكرر اليوم؛ إذ عرف المغرب تدهورا على مستوى سوق الشغل لم يتكرر منذ 24 سنة”، فحسب معطيات المندوبية السامية للتخطيط والتي أكدها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في ماي المنصرم، فإن مليون ونصف شاب مغربي تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة لا يعملون ولا يدرسون ولا يخضعون لأي تدريب مهني. وحسب تصريح لعبد اللطيف الجواهري والي بنك المغرب في نهاية سبتمبر المنصرم، فإن حوالي نصف الشباب المغربي عاطل، وإقبالهم على الهجرة بشكل غير مسبوق من قبيل محاولة الاقتحام الجماعي لسبتة المحتلة أواسط سبتمبر المنصرم راجع إلى ارتفاع البطالة التي مست 48.8 من الشباب في المغرب.
أرقام ساقها الريسوني ليعلق عليها بقوله: “دعنا من الأرقام فالهيئات الرسمية.. لم يعد بإمكانها إخفاء المعطيات الصادمة أو تلطيفها مادام أن الواقع يكذب ذلك، ولنعد إلى مساءلة ما طرحه شكري من أن المغاربة يفضلون الموت في البحر لمغادرة بلدهم، على النقيض تماما من الفلسطينيين الذين يموتون من أجل العودة إلى بلدهم أو البقاء والتشبث بها”.
ففضلا عن القضية الأولى لمحمد شكري التي كانت هي تجربته الذاتية ومغامرته، يضيف الريسوني “وباستحضاره أيضا أن فضاء الكتابة والوطن بالنسبة إليه لا يتعدى مدينة طنجة.. بالإضافة إلى هذا كله فإن الزمن الذي صدر عنه شكري في نقاشه مع أميل حبيبي (94) كان أولا زمن انهيار المعسكر الشرق البيروقراطي وتراجع الأفكار التحررية التي ألهمت اليسار شعار “القضية الفلسطينية قضية وطنية”. ثانيا- زمن اتفاقية أسلو سبتمبر 1993 حيث روج الكثير لمقولة “لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين الذين توافقت قيادتهم مع الإسرائيليين على الحل السياسي”. ثالثا- زمن وصول المغرب إلى السكتة القلبية التي سيضطر الحسن الثاني إلى الإعلان عنها في البرلمان سنة 1995. رابعا- زمن انضمام إسبانيا إلى اتفاقية شنغن وما استتبعه من اضطراد الهجرة السرية إلى إسبانيا عبر قوارب الموت. خامسا- زمن دخول أحزاب الكتلة الديمقراطية في حوار مع الحسن الثاني لتشكيل الحكومة، ومعاتبته لها على الإفراط في الدفاع عن فلسطين والعراق بما لا يرضي حلفاء المغرب الغربيين”.
هذه العوامل وغيرها ساهمت ليس فقط في خفض منسوب اهتمام المغاربة وقواهم الحية بالقضية الفلسطينية، بل أيضا بالشأن السياسي، أي بأسئلة التحرير والتغيير، يؤكد الكاتب الصحفي المرموق. ويتابع: “لقد كان المفكر محمد عابد الجابري يقول إنه من خلال القضية الفلسطينية تمت ممارسة السياسة في المغرب زمن القمع، لأن العمل النضالي من أجل الديمقراطية أي من أجل فلسطين هو عمل مترابط؛ يمكن من خلال النضال مع فلسطين دعم القضايا الديمقراطية، ولعل هذا يتقاطع مع الفكرة المغربية أن القضية الفلسطينية قضية وطنية، التي تعني أن النضال من أجل تحرير فلسطين يبدأ من النضال من أجل تحرير بلداننا من الاستبداد والسلطوية التي تتقاطع مصالحها مع مصالح أعداء القضية الفلسطينية الصهيونية والامبريالية. وأن الوصول إلى الديمقراطية في المغرب وفي البلدان العربية الأخرى يعني تحقيق الإرادة الشعبية ومنها دعم القضية الفلسطينية”.
وتأسيسا على ذلك فإن “طوفان الأقصى كان جارفا ليس فقط لصورة الجيش والاستخبارات الإسرائيلية التي لا تقهر، بل هز أيضا أركان مخططات الثورات المضادة التي كانت تستهدف ضرب الإرادة الشعبية في كل البلدان العربية بالقمع وشراء الذمم إما من النخب السياسية ومحاصرة الممانعة منها، نخبا وأحزابا وتوجهات.. وفعل الشيء نفسه مع الإعلام، وتخويف الشعوب من الديمقراطية وتصويرها على أنها معادل للفوضى، وبالموازاة مع ذلك التخلي عن دعم القضية الفلسطينية وفتح باب التطبيع الجماعي مع أكثر الحكومات عنصرية وأوضحها رفضا لأبسط حقوق الفلسطينيين في تاريخ الكيان المحتل”.
7 أكتوبر 2023، يؤكد الريسوني: “قلبت عقارب الساعة العربية إلى الزمن الثوري الذي شهدته منطقتنا في 2011، فقد أصبحنا نرى الأعلام الفلسطينية في ملاعب كرة القدم ونسمع الشعارات ترفع وتشجع الفرق الكروية وتندد بالحكرة وتندد في الآن نفسه بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، وأصبحنا نرى مواقع التواصل الاجتماعي تنتقد بجرأة كبيرة السياسات الحكومية الاجتماعية والاقتصادية وتنتقد معها التطبيع وتشنع بالمطبعين”.
ويرى أن “كل هذا الوعي يسير بسرعة أكثر من سرعة الأحزاب التي تجد نفسها في أحايين كثيرة تقاد بدل أن تقود، وفي أحايين كثيرة تنساق وراء الحماس الجارف حتى لا تبقى متخلفة عن المد العفوي الذي لا ينتظر. وهذا عبر عنه بشكل جيد وزير خارجية الأردن السابق مروان معشر في كتاب صدر بالإنجليزية عنوانه “اليقظة العربية الثانية”، يقول فيه إنه في زمن اليقظة العربية الأولى، أي سنوات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، كانت هناك نخبة بدون جماهير، الآن هناك جماهير بدون نخبة. جماهير غاضبة، ثائرة، ولكن ليست هناك نخبة لمواكبتها وتأطيرها..”.