يشهد المغرب في الآونة الأخيرة تسارعا مريبا في وتيرة التصديق على قوانين تمس جوهر الحقوق والحريات وتضرب مبدأ التشاركية وتغيب عنها الهيئات المهنية والمدنية المعنية، في مقابل سحب قوانين أساسية لمكافحة الفساد ونهب المال العام، وهو ما يُعد مؤشرا خطيرا على تراجع الدولة عن التزاماتها الدستورية والدولية، وتكريساً لحماية منظومة الفساد ومنع أي رقابة مجتمعية فعالة.
هذا المسار وصفه الأستاذ عبد الحق بنقادي، عضو المكتب التنفيذي للفضاء المغربي لحقوق الإنسان، في تصريح خاص لـ “بوابة العدل والإحسان” بأنه “انحراف تشريعي خطير وممنهج، هدفه حماية منظومة الفساد ونهب المال العام ومنع أي رقابة ولو كانت جزئية وبسيطة للمجتمع المدني”.
وأشار إلى أن هذه السياسة التشريعية الجديدة تخدم ثلاث غايات أساسية: أولها الإجهاز على الحقوق والضمانات الدستورية، وثانيها شرعنة الإفلات من العقاب عبر تعطيل أدوات المحاسبة والرقابة، وثالثها ضرب القدرة الشرائية للمواطنين في ظل صمت رسمي عن التهرب الضريبي والريع والصفقات المشبوهة، في الوقت الذي يُبرر فيه تبديد المال العام بمشاريع ذات صبغة استعراضية كالإعداد لكأس العالم 2030، دون ضمان الشفافية أو المحاسبة.
تشريع سريع ومنحرف… وغياب للتشاركية
واستطرد المحامي بهيئة وجدة في كشف أعطاب السياسة التشريعية التي قال بأنها “تتسم بسرعة جنونية ومنحرفة” في سن عشرات القوانين، رغم أهميتها الحيوية لعموم المواطنين والمواطنات.
وسجل في المقابل وجود سياسة أخرى تعتمد سحب قوانين جوهرية، خصوصا تلك التي تهدف إلى “محاربة الفساد واختلاس المال العام”، وهو ما يضعف الثقة العامة في جدية الإصلاح التشريعي المعلن.
ولفت إلى أن مشروع قانون المسطرة الجنائية رقم 03.23، الذي قيد حق المجتمع المدني في تقديم شكايات تتعلق بحماية المال العام، “يخالف مقتضيات الفصل 12 من دستور 2011″، إلى جانب مخالفته للاتفاقيات الدولية ذات الصلة بمكافحة الفساد وتعزيز دور المجتمع المدني الرقابي.
تمكين للفساد… وسكوت عن الخروقات
وأشار المتحدث إلى أن الحكومة قامت بسحب “عدة مشاريع قوانين لها ارتباط وثيق بمحاربة الفساد”، منها المقتضيات الخاصة بالإثراء غير المشروع، التي كانت جزءا من مشروع القانون الجنائي.
وشدد على أن مشاريع مهمة مثل قانون احتلال الملك العام البحري، وقانون المناجم، وقانون التغطية الصحية للوالدين، جرى سحبها دون مبررات مقنعة، في ظل صمت رسمي عن تداعيات ذلك على شفافية التدبير العمومي.
وأوضح أن ما زاد الوضع سوءا هو “تجميد الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد”، مع وقوع “خروقات فاضحة شابت الصفقة العمومية الضخمة لتحلية ماء البحر بالدار البيضاء وصفقات أخرى من قبيل صفقة الفيول والغاز الطبيعي”، دون محاسبة.
تقنين يقوض الحقوق ويعدم الضمانات
وانتقد بنقادى تجاهل مبدأ التشاركية في سن القوانين، قائلا إن ذلك يتم على حساب “الحفاظ على الأمن القانوني بما هو ثقة لعموم المواطنين والمواطنات في القوانين السارية”.
واعتبر أن تغييب رأي “أقرب المهن أو الفئات أو الهيئات المعنية” يؤكد أن ما يجري يفند شعارات دولة الحق والقانون، ويكشف عن “انحراف خطير بالمضامين الدستورية والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب”.
وأكد أن ما يحدث هو استمرار لـ “زواج المال بالسلطة”، الذي تتحكم فيه مقاربة أمنية هدفها الحقيقي ـ حسب تعبيره ـ “إعدام الضمانات” والعودة إلى قوانين “كل ما من شأنه” المفتوحة على كل التأويلات.
رقابة مغيبة ومحاربة للمبلغين
وشدد الفاعل الحقوقي والسياسي على أن عددا من القوانين الحديثة، من قبيل “القانون التنظيمي لممارسة الحق في الإضراب، وقانون العقوبات البديلة، وقانون المسطرة المدنية، ومشروع قانون المسطرة الجنائية”، تم تمريرها بعد أن “أفرغت تماما من محتواها”.
ورأى أن التشريع بات يستعمل لعرقلة الرقابة، وتكميم الأصوات التي تكشف الفساد، قائلا إن هناك رغبة “في التستر على جرائم نهب المال العام واختلاسه وتبديده، بل ومعاقبة من يفضحه”.
وأضاف أن الجهات الرسمية وغير الرسمية باتت “مغلولة اليد” بفعل مقتضيات قانونية مفصلة، في ظل غياب استقلال حقيقي للسلطة القضائية، ما يشجع على “رعاية منظومة الفساد التي تكلف البلاد ميزانيات ضخمة”.
جيوب المواطنين تعوض النهب غير المعاقب
ونبه بنقادى إلى أن إحدى نتائج هذا المسار التشريعي تتمثل في “ضرب القدرة الشرائية للمواطنين”، من خلال رفع الضرائب والرسوم، وإقرار مقتضيات ضريبية جديدة، لتعويض العجز الناتج عن نهب المال العام.
وأكد أن “صناديق الدولة تعرضت للاختلاس والنهب ولم تتم محاسبة المسؤولين عن ذلك”، مشيرا إلى التناقض الفادح بين الضغط على المواطنين وتجاهل “التهرب الضريبي الكبير لشركات كبرى نافذة”.
واعتبر أن أحدث مؤشر على هذا المسار هو مشروع القانون رقم 35.25، المتعلق بإحداث مؤسسة المغرب 2030، الذي صادق عليه مجلس الحكومة، مشددا على أن ما خفي في هذا الموضوع أعظم، وأنه “صرف ونهب وتبديد للمال العام دون حسيب أو رقيب”.