أجرى موقع “العربي21” حوارا شاملا مع الأمين العام لجماعة العدل والإحسان الأستاذ محمد عبادي، حول العديد من القضايا الهامة والراهنة.
قرار التطبيع الخطير ومسؤولية المؤسسة الملكية عنه وكذا الحكومة ورئاستها، آليات وكيفيات مجابهة هذا القرار الخطير على الوطن وعموم الأمة وإمكانيات مواجهة الاختراق الصهيوني للمنطقة، مشروعا الإصلاح من الداخل ومآزقه والتغيير من داخل المجتمع ومميزاته، مشروع الإمام ياسين الذي تحمله جماعة العدل والإحسان وما تقترحه على الأمة والإنسانية، طبيعة الميثاق الذي تدعو إليه الجماعة وأهم مرتكزاته… قضايا مهمة وغيرها يطرحها هذا الحوار الكاشف، نجدد نشره تعميما لما فيه من فوائد جمّة.
ما خيارات جماعة العدل والإحسان في مواجهة التطبيع؟
خيارات جماعة العدل والإحسان من خيار الشعب المغربي وعموم الأمة المسلمة، وهي متعددة؛ تنطلق من الرفض المبدئي الراسخ في قناعات الأفراد، وتمر عبر التعبير الصريح القاطع بكافة أشكال التعبير من الكلمة إلى المشاركة في الأشكال الرافضة مثل الاحتجاج، والسعي في تكتل القوى المدنية والسياسية والدعوية والعلمائية، ووضع الأحلاف والمواثيق الرافضة لهذا الاختراق، الذي يريد من خلاله كيان الاحتلال الصهيوني تطبيع وجوده في وعي وواقع الأمة.
ولعلك تابعت جانبا من فاعلية المجتمع المغربي، وضمنه أعضاء جماعة العدل والإحسان، في تعبيره القوي عن هذا السقوط الرسمي المدوي، وهو ما تجلى – رغم صنوف التضييقات المختلفة التي استغلت ظرف الوباء – في العديد من الوقفات الاحتجاجية، وفي الموقف القوي لعدد من القوى الحيّة، وفي الخطاب الذي يتم التعبير عنه يوميا في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام البديل المتاحة للأصوات الحرة وعموم المواطنين في ظل تأميم المشهد العام وأدوات التواصل.
هل تم تمرير ملف التطبيع بالمغرب وانتهى الأمر بالفعل على أرض الواقع؟
لو كان الأمر ذلك ممكنا لصح في مصر منذ اتفاقية كامب ديفيد قبل 41 سنة، وفي الأردن منذ اتفاق وادي عربة قبل 26 سنة، وفي فلسطين نفسها منذ اتفاق أوسلو قبل 27 سنة وما لحقه. ولكن كل ذلك، وغيره من خيانات الأنظمة، لم يكشف إلا أننا إزاء أمة عظيمة، تواصل المقاومة، وتراهن على قرارها الذاتي المنفصل عن قرار حكامها، وتعتمد طول النفس، وتنظر إلى الأمام، مهما كانت لحظة التطبيع الرسمي كالحة، ومهما بدا لوهلة أن الأمر تم وانقضى. ولنتدبر الحديث الحسن الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَلْبَثُ الْجَوْرُ بَعْدِي إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يَطْلُعَ، فَكُلَّمَا طَلَعَ مِنَ الْجَوْرِ شَيْءٌ ذَهَبَ مِنَ الْعَدْلِ مِثْلُهُ، حَتَّى يُولَدَ فِي الْجَوْرِ مَنْ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ، ثُمَّ يَأْتِي اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِالْعَدْلِ، فَكُلَّمَا جَاءَ مِنَ الْعَدْلِ شَيْءٌ ذَهَبَ مِنَ الْجَوْرِ مِثْلُهُ، حَتَّى يُولَدَ فِي الْعَدْلِ مَنْ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ).
سعد الدين العثماني قال إن التطبيع قرار صعب وسوف يخدم أكثر القضية الفلسطينية؛ فالمغرب القوي الموحد أقدر على دعم فلسطين.. ما تعقيبكم؟
هل انتهى الاحتلال؟، هل قُدّم للفلسطينيين حقوقهم، بل الحد الأدنى من حقوقهم؟، هل رجع اللاجئون والمهَجَّرون؟، هل استعدنا القدس والأقصى؟
كيف يمكن تبرير الجمع بين ادعاء دعم القضية الفلسطينية ووضع اليد في يد مغتصب فلسطين الذي شرّد أهلها وما زال يحتل أقدس بقاعها ومعظم أراضيها ويعتقل خيرة شبابها. وكأن ما سيجنيه الاحتلال من معاملات تجارية، مثلا، مع المغرب سيضعه في رصيد الفلسطينيين.
قلت إن “أدبيات الجماعة لا تفرق بين بين تازة وغزة والصحراء وسبتة ومليلية”، لكن بعض المغاربة يرون أن قضاياهم الداخلية أهم بكثير من القضايا الخارجية حتى لو كانت فلسطين.. فكيف تنظرون للمبررات التي تهدف للتراجع عن دعم القضية الفلسطينية؟
بخصوص المبررات فإنها لن تنتهي، وكلما قدمت جوابا ناصعا لا تلتبس في صحته العقول السوية والقلوب السليمة، طلع عليك المبررون بترهات وأقاويل جديدة هي أقرب إلى اللغو منه إلى الكلام الجاد. ولعل مَن يتتبّع الدعاية الداعمة لقرار المغرب بتطبيع علاقاته مع كيان الاحتلال، سيلحظ أن خطابها سرعان ما تدحرج إلى معاداة صريحة وضمنية للقضية الفلسطينية ولحقوق الفلسطينيين، ولم يقف فقط عند حدّ توضيح ضرورة القبول بالتطبيع مقابل الاعتراف بمغربية الصحراء أو ما سيجنيه المغرب من فتح العلاقات مع الكيان الصهيوني.
والعقلاء لا يرون تعارضا بين قضاياهم الوطنية والدفاع عن مصالحهم من جهة، وبين تبنّي القضايا الإنسانية والإسلامية العادلة من جهة ثانية، ولا يتنكّرون لإنسانيتهم ولقيمهم الأصيلة التي تعطي للقدس والأقصى وفلسطين مكانة معتبرة في المنظومة الحضارية الإسلامية من أجل وهم مصلحة خاصة. بل إن في ديننا إذا اقتتلت طائفتان من المسلمين وبغت إحداهما على الأخرى فالواجب أن ننصر المظلومة، فكيف بمَن يحتل أرضك، ويهتك عرضك، ويدنس مقدساتك، ويدّمر أولى قبلتيك؟، وفي ديننا نحن جسد مأمور بالتداعي بالنصر والدعم والسند للجزء المشتكي “تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. فأين ذهب كل ذلك؟ وأين اختفى في خطاب هؤلاء؟
ما صحة ما قيل عن أن قرار التطبيع هو “قرار المؤسسة الملكية”، لأن الشؤون الخارجية تقع في دائرة توجيهها؟
ليس فقط قرار التطبيع الذي يقع تحت دائرة اختصاص المؤسسة الملكية، بل كل القضايا الكبرى والمهمة والاستراتيجية تحتكر القرار فيها، بما فيها تلك التي قد يجعلها الدستور الممنوح من اختصاص مؤسسات أخرى، ما دام الملك هو الحاكم الحقيقي والفعلي في المغرب، ومادام حجم السلطات الممنوحة له صراحة وضمنا لا تحدها سلطة أخرى ولا تحاسبها ولا تسائلها، وما دامت كل تلك المؤسسات الشكلية لا قدرة لها البتة على التقرير والتقدير خارج هذه القاعدة الراسخة في السياسة المغربية منذ الاستقلال إلى اليوم.
نعم قرار التطبيع هو قرار المؤسسة الملكية، وهو ما يحملها المسؤولية الأولى عن هذا القرار الخطير. كما أن المؤسسات الشكلية من رئاسة الحكومة، والحكومة، وغيرهما، مما يقع تحت مسمى المؤسسات المنتخبة تتحمل كامل مسؤوليتها في التوقيع والتبرير وتسويغ والدفاع عن هذا القرار في هذه اللحظة الصعبة. والتاريخ حَكَم، وهو يسجل. والمسؤولية جسيمة غدا يوم القيامة.
كيف ترون موجة التطبيع الراهنة في المنطقة العربية وتأثيرها على القضية الفلسطينية؟ وهل يمكن القول إن ‘إسرائيل” نجحت في مخططها؟
موجة التطبيع هي جزء رئيس من مخطط تصفية القضية الفلسطينية ضمن ما يُعرف بـ”صفقة القرن”، وهي بدورها جزء من إعادة ترسيم الشرق الأوسط وسائر المنطقة بما يخدم مصالح القوى المستكبرة النافذة دوليا والأنظمة العربية المتسلطة محليا وإقليميا. أما تأثيرها فهو رهين من جهة بتماسك الجبهة الفلسطينية الداخلية، وبطبيعة الفعل الشعبي من جهة ثانية. والعنصران معا أراهما مبشرين وقويين في مواجهة هذه الخطة الصهيونية.
إذا أضفنا إليه الرفض الشعبي الراسخ للتطبيع في دول التطبيع القديمة (مصر والأردن) وفي الموجة الجديدة، وإذا استحضرنا معهما تنامي المقاطعة الثقافية والأكاديمية وحتى التجارية في عدد من دول أوربا والعالم، كل ذلك يكشف أن الجدار صلب أمام محاولة الاختراق الصهيوني هذه، وليس بالرخاوة التي يتوقعها المُطبّعون.
إننا واقعيون جدا مع أنفسنا، وندرك واقع أمتنا اليوم وحجم قوتها وضعفها، ومدى الهوّة التي صنعها حكامها بينهم وبين شعوبهم، لكننا في المقابل ندرك تماما، وموقنون، أن قدرة الأمة بإذن الله على الفعل موجودة، ليس فقط غدا في الأفق المنظور، بل اليوم والآن رغم كل الصعوبات التي تعترضها. وما أشرت إليه سالفا من تجليات وأشكال رفض خيانة القضية الفلسطينية التي هي قضية كل المسلمين، كاف لبث الطمأنينة في قلب كل الغيورين، ولبعث الأمل والعمل في أوصال الشعوب بقيادة قواها الحيّة الصادقة.
وقد علمنا ديننا أنه كلما اشتدت الأزمة كانت علامة على الفرج القريب.
قال الله تعالى في سورة يوسف حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ الرسل عليهم السلام لا يعرفون اليأس، بل هم أعلام وقدوات في اليقين والثبات. وإنما المعنى أنهم يئسوا من إيمان قومهم، وخافوا أن يدخل قلوب أتباعهم شك. في هذا الوقت ذي الشدة البليغة والحرج الكبير يبزغ نصر الله لعباده الصادقين الموقنين.
كانت التيارات الإسلامية خارج المغرب تنظر بمثالية إلى تجربة الإصلاح من الداخل التي يمثلها حزب العدالة والتنمية بعد الربيع العربي، في مقابل خيار العدل والإحسان الذي يراهن على الإصلاح من الخارج، هل كشف التطبيع مع الكيان الصهيوني عن حقيقة المشروعين، كيف ذلك؟
نعتقد أن حقيقة مشروعي الإصلاح من الداخل (من داخل السلطة السياسية القائمة)، والتغيير من خارج النسق الرسمي (ويعني من خلال الضغط المجتمعي ولا يعني الاستعانة بالخارج أو الخط الانقلابي..)، لم تتكشّف فقط مع لحظة التطبيع الراهنة، رغم وضوح هذه الأخيرة بشكل لا لبس فيه، بل كانت متاحة أيضا في مراحل سابقة، خاصة مع مرحلة ما عُرف بالربيع العربي وما أعقبه. إذ المرحلة حينها كانت واضحة في تقديم كل حركة وتيار أمام المجتمع، وفي كشف طبيعة الموقف الذي يتبناه في معركة السلطوية والديمقراطية وفي تدافع الإنسان والمواطن وحقه الأصيل في العيش الحر الكريم مع الاستبداد وتغوّله وتسلط أصحابه على عموم الناس. لكن مع الأسف، جرت التعمية على حقيقة الواقع المغربي وتسويق صورة مغالطة ومخادعة.
مع الأسف نعتقد أن ضعف الاطلاع على التجربة المغربية، خاصة، وعدم تتبعها وكشف حقيقة الوضع الكامن وراء تدابير شكلية تمويهية: كدستور ممنوح مذيل بحديث معسول عن الحقوق والحريات وفصل السلطات في وقت أعادت السلطوية هندسة نفسها داخله، وحتى خارجه. وكالسماح لتيار من الإسلاميين بالمشاركة في المؤسسات الرسمية في المعارضة ثم في الحكومة بعد تقييد هذه المؤسسات وضبطها بما هو دستوري وقانوني وتنظيمي وتدبيري وحتى واقعي وجعلها مؤسسات شكلية جدا وفاقدة للفاعلية الحقيقة في أرض الواقع وتابعة كلية للحاكم الفعلي؛ الملك ومستشاريه.
كما نعتقد أن ضعف الاطلاع والتتبع بطّأ من انكشاف الواقع الحقيقي لوضع السلطة في المغرب، ولآفاق الإصلاح والتغيير خاصة من قبل التيار الإسلامي المنخرط في السلطة بالشروط المجحفة التي بات يعلمها الجميع. ولكن فعلا جاء اختيار الإقرار بقرار التطبيع والدفاع عنه وحشد التبرير له رغم وضوح خطئه في طعنه للقضية الفلسطينية، ليكشف ما كان مخبوءا ولتستفيق فئات عريضة من النخبة غير المغربية على الحقيقة المرّة.
يؤكد بعض المختصين في الحركات الإسلامية أن جماعة العدل والإحسان تتميز بفرادة في مشروعها التربوي والسياسي، هل لكم أن توضحوا هذا الأمر؟
العدل والإحسان جماعة من هذه الأمة، تقترح مشروعها وتدعو إلى إخضاعه لامتحان التجربة.
وباختصار شديد الجماعة ترى أن جوهر الوجود الإنساني في هذه الحياة هو عبادة الله سبحانه وتعالى ومعرفته، وتركز على أن الدين ليس طقوسا شكلية ولا عبادات فارغة من كل روح. بل الدين عندها كما في حديث جبريل عليه السلام، إسلام وإيمان وإحسان، أي أن عملية تزكية النفس بصحبة الصالحين والأخيار وبالعبادات والذكر ومجاهدة النفس لا تتوقف حتى يأتينا اليقين (الموت)، لأن الترقي في معراج القرب من الخالق الكريم سبحانه لا حدود له.
نريد أن نعرف ويعرف الناس، وأن نتعلم ويتعلم الناس، أن الله سبحانه يُحِب ويُحَبّ، وأن العلاقة برسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم حيّة حبا واتباعا واستنانا واقتداءً، وبأن المسلم رفيق رحيم بخلق الله، صادق مع نفسه ومع مبادئه ومع غيره، إيجابي في هذه الحياة أينما حل وارتحل، يَعْمُرها بالخير والسلم والتعاون على البر والتقوى مع الجميع.
هذا البعد التربوي العميق (الإحساني)، الذي تركز عليه الجماعة والذي دلها عليه الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، لا يكتمل دون البعد الثاني وهو المستوى السياسي (العدلي)، فهذا المؤمن والمسلم الذي نريد له خلاصا وربحا وفوزا عند مولاه، لن يسلك في أذنه هذا الخطاب الإيماني الإحساني إذا كانت تصده صواد الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي والاحتكار الاقتصادي، فلا يجد قوت يومه، ولا يصادف سوى الظلم والاحتقار والتخلف والدونية.
لذلك، ولكي يكون حال الأمة مجتمعة صالحا، كي تتهيّأ ظروف صلاح أفرادها، ندعو ونعمل لإصلاح الأوضاع السياسية والاجتماعية، ونرى ألا مدخل لذلك إلا عبر إصلاح نظام الحكم، لأن الدولة اليوم تحتكر سائر المجالات وتتدخل في كل الشؤون وتؤثر حتى في مؤسسات التنشئة الاجتماعية من أسرة ومسجد ومدرسة وإعلام. فاستقرار الحكم على قاعدة الشورى، ليكون مُعبّرا حقيقا عن إرادة الأمة، لا شك يكون هو الخطوة الأولى الصحيحة في مسار نهضة الأمة وبناء حضارتها واستعادة دورها الرسالي.
ولإصلاح هذا الوضع السياسي وإحداث التغيير العميق السلمي، ندعو إلى الحوار مع مختلف الأطراف وألا يقصي طرف طرفا، وأن نحرص على التوافق لما فيه خير شعبنا وأمّتنا.
كثيرا ما نسمع عن دعوة جماعة العدل والإحسان الفرقاء السياسيين إلى ميثاق جامع.. فما هي أهم أسس هذا الميثاق؟
هو ميثاق يروم أساسا أن يحقق التغيير حتى تصبح الدولة خادمة للمجتمع ومعبرة عنه. وبغض النظر عن تفاصيله التي يمكن أن نخوض فيها، وأشكاله التي يمكن أن يتخذها، فهو ميثاق ينبني على عدة ركائز أساسية منها:
أنه أولا ميثاق يتّسع للجميع ولا يقصي أحدا، يتسع لجميع من يريد أن يبدأ خطوة إعادة البناء الصحيح من أجل خدمة المجتمع والإنسان والمواطن، لا ترسيخ حكم التسلط والاستبداد.
وهو ثانيا ميثاق لا يشترط حدودا حمراء ولا خطوطا صفراء ولا مناطق رمادية، يطرح كل شيء للنقاش، وفي مقدمة ذلك نظام الحكم من حيث طبيعته ومؤسساته وصلاحياته وكيفية ارتداده إلى دوره الأصلي والأصيل.
وهو ثالثا ميثاق يجري على أعين الناس وتحت بصرهم، لا يدعو إلى السرية والنخبوية، ولا يرتهن للمصالح الخاصة على حساب عامة الشعب.
وهو رابعا ميثاق يراعي المرحلة الانتقالية، ويدرك تماما أنه يريد أن يحدث تغييرا كبيرا وهائلا، فيطلب من أطرافه أن يراعوا أنهم يؤسسون لانتقال، والانتقالات تنبني على التدرج وتحتاج حكمة عالية وصبرا وذكاء ونكرانا للذات، ومن تجليات هذه المرحلة ألا ينزع أحد إلى الغلبة والاحتكار والاستقواء بعمقه الشعبي أو الانتخابي، وأن ننحاز جميعا إلى قيم التشارك والتعاون والتآزر.
تخلدون هذه الأيام الذكرى الثامنة لرحيل مؤسس العدل والإحسان الشيخ عبد السلام ياسين، كيف هو حال الجماعة بعد ثماني سنوات على رحيله وكيف تنظر للمستقبل؟
نعم نخلد الذكرى الثامنة لرحيل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، مؤسس جماعة العدل والإحسان وواضع مشروعها التغييري، وهي مناسبة بقدر ما نجدد فيها شكر الرجل حبا ودعاء واستذكارا لبعض أفضاله على جيل واسع داخل المغرب، وفي بلدان أخرى أيضا استقت بعض فئاتها مشروعها الإنساني الكبير، بقدر ما نُجدّد فيها دعوة غيرنا إلى الاطلاع الموضوعي على مشروعه والنظر فيما عرضه على الأفراد والجماعات من خلاص في الدنيا والآخرة.
الجماعة بحمد الله تمضي في المشروع الذي آمنت به وندبت نفسها له، يقودها رجال ونساء بقدر ما يتحلون بالتواضع ولا يدعون لخطهم العصمة عن الخطأ، بقدر يقينهم فيما هم فيه من سداد في الرؤية وصدق في الباعث وجد في العمل ويقين في المستقبل.
لا تزحزح الجماعةَ الأحداث والخطوب مهما عظمت، ومهما تخاذل مَن تخاذل وغيّر مَن غير وبدّل مَن بدل. شعارها الدائم أمثال هذه الآيات المباركة من الكتاب العزيز: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ.
يقيننا نستمده من مولانا عز وجل، ولنا قرارنا المستقل الذي تؤسسه قواعد وآليات الشورى، ولنا تقديرنا السياسي الذي نبنيه على تصور سياسي أسسه الإمام ياسين رحمه الله وطوره وأنزله رجال وأطر الجماعة التي لها عملها المنضبط لبرامج عمل ولائية وسنوية ودورية، ولها أدوات التقييم والتقويم وتدارك الخلل والنقص وتعزيز الأداء والنجاح، سعيا نحو غايتها التي رسمتها لنفسها رضا الله عز وجل وسعادة الإنسان واستقرار المجتمع وعدل الدولة.