ذة. فلالي: كل علاقة بالقرآن الكريم تربطك مباشرة بالله سبحانه وتعالى

Cover Image for ذة. فلالي: كل علاقة بالقرآن الكريم تربطك مباشرة بالله سبحانه وتعالى
نشر بتاريخ

ونحن في شهر رمضان المعظم شهر القرآن الكريم، وبالضبط في العشر الأواخر منه التي تضم ليلة القدر التي أنزل فيها، أجرينا حوارا مطولا حول فضله وبركته، واهتمام المسلمين به من لدن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صحابته فتابعيهم فتابعيهم إلى حاضر وقتنا، ومكانته في مشروع جماعة العدل والإحسان، والحرص على تعلمه وتعليمه الناس أجمعين، وغيرها من القضايا التي تثار حولها التساؤلات.. أجابتنا عنها الأستاذة نزهة فلالي، المسؤولة عن لجنة القرآن الكريم التابعة للهيئة العامة للعمل النسائي للجماعة.

هذا نص الحوار الماتع.


بداية، ونحن في شهر القرآن، هل من تذكير بفضل القرآن الكريم؛ قراءة وحفظا ومدارسة وتمثلا؟

بسم الله الرحمن الرحيم مالك الملك الوهاب الكريم، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين صلاة طيبة مباركة نفتتح ببركتها حديثنا عن أعظم وأهم وأدق كتاب وكل ما شئت من الأوصاف التي لا تبلغ منتهاها مهما كانت، إنه القرآن كتاب الله العظيم والنور المبين والهادي إلى صراط الله المستقيم.

خلق الله الكون والخلق لحكمة يعلمها هو، ومن عدله سبحانه وتعالى أن بيّن للناس الطريق، فبعث الرّسل وأوضح السبل عبر مسيرة الإنسان، منذ خلق آدم إلى البعثة المحمدية، خاتمة الرسالات وحاملة لواء الرحمة للعالمين قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (سورة الأنبياء 106)؛ إعلان شملت مساحته الزمنيّة كل الأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وشملت مساحته المكانية العالم بأسره، وكان القرآن العظيم المنزّل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الكتاب الذي حوى بين دفّتيه هذه الرحمة تشريعا لحياة طيبة، وبشيرا لمن اتبعه وأخذ به، ونذيرا لمن أعرض عنه.

فالقرآن الكريم هو حبل الله المتين الممدود بين السماء والأرض، مدّه الله تعالى إلى الراغبين من عباده فيما عنده، الزاهدين فيما سواه، وهو مائدة ضيافة أعدّها الله لإكرامهم بها، والمستجيبون لهذه الضيافة ينعمون بالطمأنينة والسكينة لأنه جلاء القلوب.

القرآن هو منهاج النبوة التي جاءت تبشرنا به، وتجمعنا عليه، وتدعونا إليه دعوة إلى رب العزة من خلاله. فلا نفلح ولن نفلح إلا باتباعه والسير على خطاه والشرب من معينه والاغتسال بماء طهره، فهو المنهاج القرآني الشامل الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أراده الله تبصرة للعباد وذخرا لهم في الدنيا والآخرة.

والقرآن هو كلام الله تعالى، أنزله “نورا لا تطفأ مصابيحه، وسراجا لا يخبو توقده، وبحرا لا يدرك قعره، ومنهاجا لا يضل نهجه، وشعاعا لا يظلم نوره، وفرقانا لا يخمد برهانه، وتبيانا لا تهدم أركانه، وشفاء لا تخشى أسقامه، وعزا لا تهزم أنصاره، وحقا لا تخذل أعوانه” (نهج البلاغة)، بل إن الفيصل بين الإيمان والكفر هو الموقف من القرآن.

وفضل القرآن على الناس إنما يتجلى في كل ما ذكر، وعلى العبد المؤمن أن يلزم قراءته وحفظه وتدبره ومدارسته لينعم بهدايته في الدنيا، وحفظه من الزيغ والضلال، وبنوره وشفائه، وبثواب كل ذلك في الآخرة. فمن تدبر القرآن عرف الله عز وجل، وعرف عظيم سلطانه وقدرته، وعرف ما أنعم به على عباده المؤمنين. ومن لم يعرف الله فاته كل شيء، مهما حاز من الشهادات.

فهلا سقت لنا بعض المظاهر التي تدل على اهتمام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن العظيم وصحابته الكرام والسلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين خاصة في هذا الشهر الفضيل.

مظاهر اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم متعددة في الكيف والكم، فقد كان حاله صلى الله عليه وسلم مع القرآن في أكمل الأحوال على الإطلاق، كان كثير المدارسة له مع صحابته رضوان الله عليهم، وكان يستمع إليه منهم ويبكي لسماعه صلى الله عليه وسلم، ويكثر القراءة منه في كل يوم وفي قيام الليل، كانت قراءته صلى الله عليه وسلم ترتيلا، وكان يقطّعها آية آية، يدعو عند آيات الدعاء، وينزّه الله عند آيات التسبيح، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأه على جميع أحواله: قائما وقاعدا ومضطجعا، وكان يتغنى به ويرجع صوته به، كان يتخلق بأخلاقه ويتأدب بآدابه ويتدبر آياته، وقد أجملت أمنا عائشة رضي الله عنها كل هذا فقالت: “كان خلقه القرآن”.

ولم يكن حال الصحابة إلا على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اهتمامهم بكتاب الله وهم يقرؤون فيه: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (الأحزاب: 21)، فتلقوه مدركين مدى الشرف الذي حباهم الله به، وأقبلوا عليه يحفظونه ويرتلونه أناء الليل وأطراف النهار، كان غذاء لأرواحهم الطاهرة وقوة قلوبهم الزكية وقرة أعينهم، وحجتهم الدامغة، كانوا رضوان الله عليهم يتنافسون في تلاوته وحفظه، واتخذوه منهجا حقا في حياتهم، ولا يطلبون العلم إلا بعد حفظهم القرآن، ويتحسرون على انقطاع أعمالهم الصالحة عند الموت، ومن أجلها وأعظمها تلاوة القرآن الكريم.

وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان موعد خاص مع القرآن، كيف لا ورمضان شهر القرآن، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتدارسه مع جبريل عليه السلام في كل ليلة من ليالي رمضان، تعليما وتجويدا وتصحيحا للفظه ومخارج حروفه، وكان أيضا عليه الصلاة والسلام يطيل به القيام في رمضان. أما عن همّة الصحابة رضوان الله عليهم في حالهم مع القرآن فقد كانت من همّته صلى الله عليه وسلم، فهم تربوا في أحضانه وتشربوا من معين حبه لله ولكتاب الله، فقد كان أبو بكر رضي الله عنه من أقرئهم للقرآن، وكان سيدنا عمر من أشدهم فهما لمقاصده حتى نزل الوحي موافقا له في كثير من المواقف، أما عن سيدنا عثمان فقد قال: “ما أحب أن يأتي علي يوم وليلة حتى أنظر في كلام الله”، ويحكى عنه في سيرته أنه صلى بعد العشاء بالقرآن كله. ودأب السلف الصالح على طريقهم، فهذا قتادة رضي الله عنه يدرّس القرآن في رمضان، وكان سفيان الثوري يترك جميع العبادة ويقبل على قراءة القرآن في رمضان، وكان للشافعي رحمه الله ستون ختمة في غير الصلاة، ومنهم من كان يختم كل ثلاثة أيام، ومنهم من جمع أصحابه وأحضر المصاحف للقراءة، وغير ذلك كثير في سيرهم رضي الله عنهم.

كان تعلم القرآن الكريم وعلومه في سن مبكر حاضرا بقوة عند الأسر وفي برامج التعليم في القرون الأولى، وفجر معه علوم شتى، فنجد من حفاظ القرآن من برعوا في الرياضيات والفلك والطب.. اليوم يتم التضييق عليه مقابل مواد أخرى تأخذ حيزا أكبر منه، ما أثر هذا الفعل على الناشئة سواء من حيث السلوك أو من حيث امتلاك سائر العلوم؟

القرآن الكريم وهو كتاب الله الذي شرفت به أمّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كان ولا يزال كتاب الله ودعوته التي تخاطب في الإنسان كوامن النفس البشرية لسماع الحق، هذا السماع الذي يفهم الإنسان من خلاله ما له وما عليه، ويفهم معنى الحياة ودوره الأساسي فيها، والكون من حوله وتسخير الله له قوانينه وضوابطه، وهو فوق هذا كله كتاب يتعبد بتلاوته وحفظه وتدبره، ولكل هذه المزايا اهتم المسلمون بالقرآن الكريم اهتماما بالغا، فجعلوه إمامهم ودليلهم في الطريق، طريق الدنيا الموصلة إلى طريق الآخرة. يقول ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله: “اعلم أن تعليم القرآن للولدان شعر من شعائر الدين، أخذ به أهل الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الحديث. وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعده من الملكات، وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخا. وهو أصل لما بعده. لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات. وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما يبنى عليه” (مقدمة ابن خلدون، 1/740)؛ يشرح المؤرخ بن خلدون رحمه الله لماذا دأب الناس على تعليم القرآن، لأنهم كانوا يعتبرون ذلك شعيرة من شعائر الدين، فانتشر الأمر على هذا الأساس في جميع الأمصار حتى أصبح القرآن هو أصل التعليم لما يحصل به من ملكات عند المتعلم، ومن بركات في الفهم والنبوغ. وقد دفع هذا الأمر بالسلف الصالح إلى العناية الفائقة بتعليم القرآن. فكان منهم من حبس نفسه لتعليم الولدان كتاب الله خمسين وستين سنة، ومنهم من أوقف أموالا لتعليمه، وهذا ما فجر الحضارة الإسلامية بكل ظواهرها الإيمانية والعلمية والأخلاقية والإنسانية، حيث تعامل العلماء المسلمون مع أنفسهم ومع الكون، مع الحاضر والمستقبل من خلال ما نبّه إليه القرآن العظيم، وجعلوا من منهج القرآن في التعامل مع كل الأبعاد الحياتية والكونية قائدهم، فاحترموا نواميس الله في كونه، وجعلوا الإنسان كائنا محوريا في كل علومهم التي سخروها ليحققوا الغاية العظمى غاية العبودية لله سبحانه وتعالى.

هذه الصورة المشرقة لعلاقة القرآن والإيمان بالإنسان وبنائه وفهمه وتحركه، غابت في حاضر الأمة الحالي حيث لم يبق للقرآن الكريم في تعليمهم وأسس بناء شخصيتهم أثرا إلا من رحم الله، فضاق الحيّز الذي كان مخصصا للقرآن الكريم في حياة سلفنا الصالح لصالح العلوم الكونية البعيدة عن نور القرآن وهدايته، لنجد آثار هذا الضيق وهذا البعد في كثير مما يخترعه الإنسان من آليات وصناعات وإن وضعوها في سلم التقدم الحضاري إلا أنها على عكس ذلك مدمّرة للإنسان وراحته وسكينته وللكون أيضا.

ومن المعلوم والمحتوم أن أثر هذا الأمر على الناشئة ‑أي بعدهم عن القرآن في تعليمهم وبناء شخصيتهم‑ إن لم يتنبه إليه أولياء الأمور فهو أمر جلل، لأننا نبني أجسادا بدون أرواح قد تخبط خبط عشواء في علاقتها بنفسها وبمحيطها، فيضطرب عندهم الميزان القويم الذي جاء به القرآن الكريم لفهم الحياة والدنيا والآخرة، وسيؤول الأمر إلى تغيير مسار الإنسان بالكلية عن المسار الذي أراده له الله إلا من رحم الله، لأننا لا ننفي الخيرية عن أمّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مهما كان ومهما تغيرت الأحوال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله في هذا الشأن: “ولن تزال هذه الأمة بخير ما اتخذت القرآن عمدة التعليم والتربية وقوامهما” (إمامة الأمة، 147)، وهو ما دأب عليه السلف الصالح وغاب عن حاضر الأمة الحالي؛ فاستقامت لهم النظرة للحياة وللكون، وغابت هذه الاستقامة عندنا. ويشرح الإمام رحمة الله عليه في كتابه إمامة الأمة كيف تستقيم هذه النظرة بقوله: “من جلسة الاستماع والتلمذة لرب العالمين، تستقيم لنا النظرة، فنمسك بالعقل نزجره عن تشرد العقلانية الفلسفية وتسيّبها، ونجيء به طائعا لله رب العالمين تحت مراقبة القلب لتجنده ليطوّع آيات الله في الكون لآيات الله المتلوة المنزلة المقدسة”. (إمامة الأمة، 143. بتصرف) وذلك تحقيقا وإيمانا بقول الله تعالى الذي قال: مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ [الأنعام، 38] وقوله سبحانه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [النحل، 89].

وأنت مسؤولة عن لجنة القرآن التابعة للهيئة العامة للعمل النسائي لجماعة العدل والإحسان، ما حظ هذه العلوم الشريفة من برنامجكم التعليمي؟ وما هي الطرق التي تسلكونها لذلك؟ والفئات المستهدفة؟

قبل الحديث عن البرنامج التعليمي وما يتعلق به، أشير إلى أن إفراد القرآن الكريم بمؤسسة تُعنى بشأنه وكل متعلقاته، إن نمّ على شيء فإنما ينمّ على مكانة القرآن في مشروع جماعة العدل والإحسان، وعند صاحب المشروع الإمام المجدد رحمة الله عليه، حيث كان يمثل القرآن الكريم مركز المشروع ومحوره الذي يدور عليه بكل تفاصيله وقضاياه، ومن هنا كان لزاما أن تأخذ لجنة القرآن الكريم ثقلها ومكانتها كمؤسسة في المنظومة التنظيمية للجماعة.

أما عن حظ هذه العلوم من برنامج هذه المؤسسة، فهو أكيد حظ وافر من ناحية الاهتمام والتنظير، لأن علوم القرآن من أشرف العلوم وأدقها، لها مكانتها المعتبرة، ولا يتصدى لها إلا من هم أهل لذلك، وهذا يتطلب جهدا ووقتا لإعداد الأطر ومن لهم الكفاءة للتصدي لها. هذا من ناحية الاهتمام والتنظير، لكن من ناحية العمل والميدان فما لا يدرك كله لا يترك جله، فلنا واجهات عمل كثيرة والحمد لله في الحفظ والتحفيظ وما يتعلق بهما من إتقان لقواعد التلاوة، والعمل على الإجازات بالسند المتصل، وفتح المجال لبعض علوم القرآن التي لا بد منها كبداية، كقواعد التلاوة، وعلم الرسم القرآني، والوقف والابتداء، والتفسير، وغيرها من العلوم التي تمكن القارئة من الإتقان في التلاوة، في أفق إبراز كفاءات علمية في كل ما يتعلق بعلوم القرآن الأخرى.

 أما عن الفئات المستهدفة، فكل الأعمار وكل الحيثيات المجتمعية مستهدفة، حيث نطمح أن يصبح فهم القرآن وتدبره وحفظه عزمة في حياة كل مؤمن ومؤمنة، لأن هذا الأمر لا يخص فئة دون فئة، وإنما هو متعلق بسلوك المرء إلى ربّه، وطلب آخرته، فمن أراد الدرجات العلا في الجنّة، حيث يقال لصاحب القرآن “اقرأ وارتق”، فعليه بالقرآن وملازمته حفظا للحرف وحفظا للمعنى. وعندما يأخذ القرآن مكانه في حياة الناس تعظيما وتطبيقا، فمن المسلّم به آنذاك أن يصبح للقرآن مكانته المعتبرة في الأمة كمنهج حياة.

في شهر رمضان يزداد إقبال الناس على قراءة القرآن، ما سر ذلك في رأيكم؟

يقول الحق سبحانه: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ [البقرة: 185]، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا في ليلة القدر، ويشهد لذلك قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1]، وهي ليلة مباركة خير من ألف شهر، فهذه الآيات هي تقرير إلاهي صريح في كتابه العزيز بأن شهر رمضان هو شهر القرآن، ومما يؤكد ذلك أيضا ما وصلنا من السنة النبوية، وهو معارضة سيدنا جبريل لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان من كل عام. ولهذه الأسباب كان احتفاء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن في شهر رمضان احتفاء خاصا، فكان صلى الله عليه وسلم يطيل به القيام في رمضان أكثر من غيره، ويكثر من قراءته على جميع أحواله، وسار الصحابة رضوان الله عليهم على خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عملا بقول الله تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21] تعظيما لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فالتزموا في هذا الشهر الكريم بالإكثار من قراءة القرآن وحفظه وتدبره، وهو خصوصية من خصوصيات هذا الشهر العظيم، وبقي تلازم شهر رمضان والقرآن تلازما متوارثا من جيل إلى جيل لذات الأسباب التي ذكرناها، بل إن علماء الأمّة وأولياءها دأبوا على تعظيم ما عظمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبر تاريخها، وهو ما نشاهده اليوم منتشرا حتى بين عامة الناس الذين يحرصون على الإكثار من قراءة القرآن في هذا الشهر الفضيل طلبا للثواب والأجر وتعظيما للعبادة وإن كانت نفلا لكن لها خصوصيتها المتلازمة مع خصوصية شهر رمضان.

من النقاشات التي تثار في هذا الأمر كل ما حل رمضان مسألة الإكثار في الختمات والتنافس فيها، ما قولكم في الأمر، هل هذا يكفي؟

القرآن العظيم هو كلام رب العالمين، وهو صفة من صفاته جل وعلا، وكل علاقة بالقرآن الكريم تربطك مباشرة بالله سبحانه وتعالى، حتى النظرة فيه، أن تفتح القرآن وتقلب الصفحات للنظر فقط لك أجر ذلك، والله يعطي بالنيات ودرجات التعظيم الذي هو عمل قلبي، ونحن نعلم أنّ عمل القلوب قد يبلغ جبالا من أعمال الجوارح، فما بالك إن زدت على النظر القراءة والتدبر، وما يدفع الناس للإكثار من الختمات والتنافس فيها هو طلب الأجر الوفير من هذا العمل، لأنه ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف” (رواه الترمذي). فإذا هو أمر محمود ومطلوب التنافس فيه كما كان بين السلف الصالح، ونحن نسمع عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه كانت له ستون ختمة في رمضان من غير الصلاة. ولكن الذي نأسف له أنه مع الإكثار من قراءة القرآن حرفا فهو بعيد في الغالب الأعم عن عقول الناس معنى وأحكاما، وهنا نقول إنه لا يكفي التنافس في كثرة الختمات دون تمثل القرآن كأخلاق ومعاملات وكمنهج حياة على العموم، وإن عبّر هذا عن شيء فإنّما يعبّر أننا أصبحنا نعظم القرآن ونقدسه كشيء وليس كمنهج حياة، وهذا مما لا ينبغي لأمة سيدنا محمد، لأن القرآن ما نزل إلا ليكون منهج حياة وليس كتاب تعبد بالتلاوة فقط.

للمرأة أحوالها الخاصة طبعا، سواء من حيث البنية الفزيولوجية، أو من حيث مسؤولياتها المتعددة في البيت. كيف توازن المرأة بين هذه الأعمال وبين التعرض لنفحات هذا الشهر الكريم من حيث العبادة عموما والقرآن خصوصا؟

هذا السؤال يحيلنا في حقيقة الأمر على سؤال كبير ومهم جدا، فلا أحد ينكر أن أعباء البيت وتربية الأطفال والاهتمام بكل ما يتعلق بالأسرة واحتياجاتها، يأخذ من المرأة جهدا كبيرا ووقتا طويلا خصوصا في مرحلة من المراحل العمرية للأطفال، حين يكونون ملتصقين بالأم في كل احتياجاتهم المادية والمعنوية، والسؤال المطروح هنا، هل المرأة باعتبارها إنسانا وباعتبارها أمة لله تختفي كل احتياجاتها الروحية والمادية بحيث تصبح لا معنى لوجودها إلا من خلال أطفالها وزوجها وأسرتها؟ لا أظن أن هناك عاقل يقول بمثل هذا وإن كان الواقع يكرس في كثير من الأحيان هذا الأمر، ولكن ما ينبغي أن يفهمه الجميع وأن تفهمه المرأة على وجه الخصوص؛ أن مسؤولية البيت والأسرة عظيمة، وأجرها عند الله كبير، ومعها وقبلها وبعدها هناك السباق إلى الدار الآخرة، السباق إلى الدرجات العلا في الآخرة، السباق من أجل مجاورة النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين، هناك محبة الله التي تدعوني لمجالسته ذكرا وتلاوة لكتابه الكريم، تدعوني لأخوض هذا السباق حتى أكون من أهل الله وخاصته، فإن كان الاهتمام بالأسرة جزء من السير إلى الله وطلب الزلفى عنده، إلا أنه لا يتمثله في مجمله ويبقى طرق الأبواب الأخرى ونيل الحظ منها من آكد الواجبات، وذلك يتطلب اجتهادا وضبطا للوقت وتنظيما له في غير مضيعة، والقرآن الكريم مشروع العمر كله، فقد تكون المرأة في مرحلة من المراحل لا تستطيع أن تعطي أغلب وقتها لكتاب الله أو التفرغ للعبادات الأخرى، ليس بخلا منها ولكن نظرا لاحتياجات أطفالها المتواصلة لصغر سنهم أو لظروف معينة، غير أن هذه الحالة لا تدوم، فلا يلبث الأطفال أن يكبروا ويستغنوا عن خدماتها شيئا فشيئا، فتتفرغ هي أكثر فأكثر، وحديثنا هنا دائما عمن لديها أطفال أو لديها من تهتم بهم، ولم نتحدث عن التي ليس لها أطفال أو التي فرغت من مسؤولياتهم، أو التي لديها إمكانات مادية تساعدها على التفرغ من بعض الخدمات بالإتيان بمن يساعدها عليها، والحالات تختلف من بيت لآخر ولا يمكننا أن نصدر حكما واحدا على كل النساء، أو نتحدث عن حيثية واحدة منهن.

وأختم كلامي هنا أن مسؤولية البيت لا تعفي المرأة من الاجتهاد والمسارعة والتنافس في طلب وجه الله، كل واحدة من موقعها وما تسمح به ظروفها وفوق ما تسمح به اجتهادا وبذلا وعطاء، نبذل القليل في انتظار بذل الكثير، ونبذل الكثير في انتظار بذل الكل، والله في عون العبد ما دام العبد مجتهدا لبلوغ الهدف ما استطاع إلى ذلك سبيلا، والاستطاعة هي استفراغ الجهد، والمرأة على العموم لديها طاقة في الصبر والتحمل تستطيع أن تفعل بها الكثير، ولا تخلو الساحة من نماذج حفظن وأتقن وتعلمن وعلّمن رغم مسؤولياتهن المتعددة.

هل من نماذج تنور للمؤمنات طريقهن في هذا الباب من الماضي والحاضر؟

عبر التاريخ الإسلامي ومنذ عصر النبوة إلى يومنا هذا أعطى كثير من النساء النموذج الأمثل والقوي في إرادة المرأة وطلبها وجه الله بطلب العلم بكتابه والعمل به، وكانت أولهن أمهات المؤمنين سيدتنا عائشة، وسيدتنا حفصة، وسيدتنا أم سلمة رضي الله عنهن أجمعين، بل كانت سيدتنا حفصة تعرف الكتابة وهو ما دعا إلى ائتمانها على الصحف التي كتب فيها القرآن الكريم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولم تكن الصحابيات أقل حبا وشغفا من أمهات المؤمنين في حب تعلم كتاب الله وحفظه، فكن من جملة من يتعلم القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهن من حفظته كله ومنهن من حفظت بعضه، وكانت أم ورقة رضوان الله عليها تحفظه كاملا كما ذكرها الحافظ بن حجر في الإصابة، وممن حفظت القرآن من نساء الصحابة أم الدرداء الكبرى، وأمها خيرة بنت أبي حدود.

وتوالى اهتمام النساء بالقرآن الكريم عبر تاريخ الأمة، وبذلن في سبيل ذلك الغالي والنفيس، كبناء المساجد والمدارس وإنفاقهن على إقرائه وتحفيظه، وقد نذكر من بينهن زبيدة بنت جعفر المنصور العباسي التي كانت لها مائة جارية يحفظن القرآن الكريم، وكان قصرها كدوي النحل من القراءة.

وكثيرات منهن عبر أمصار البلاد الإسلامية، من كان لهن اهتمام بالغ بالقرآن الكريم حفظا وتعلما وتعليما، ولم يقتصرن على ذلك فقط بل حرصن على كتابة المصحف بخط أيديهن. وما أثار إعجابي في الأمر هو أنه رغم ما أصاب وضع المرأة من تغير عبر هذه العصور من إهمال، إلا أنه بقي حرص أهل بيوت العلم على تحفيظ وتعليم بناتهن القرآن الكريم، فكان لهم الفضل في بروز الكثير من العالمات المسلمات.

وغير بعيد عنا وفي زماننا وبين ظهرانينا ما نسمعه عن نساء فلسطين المجاهدات بكل ما في الكلمة من معنى، جهاد اختلفت فيه الأدوار من واحدة لأخرى لكنه توحد في واجهة القرآن وحرصهن رغم الظروف الصعبة والتي قد تثني الكثيرات منّا على هذا المشروع، لكنه كان حافزهم على الصبر، ومعينهم على الطريق، وحبلهم المدود بين السماء والأرض الذي يستمدون به قوتهم وفهمهم ووحدتهم.

للقرآن الكريم، كلام الله تبارك وتعالى، بركة يلمسها كل محافظ على قراءته وحفظه، هل تذكرين بعض صورها انطلاقا من تجربتك الخاصة أو تجارب عايشتها مع نساء أخريات؟

من المعلوم والمؤكد عند كل مؤمن أنه لا شيء في الوجود أعظم بركة من القرآن الكريم، فهو كلام رب العالمين، وباب كل خير ونعمة وزيادة دينية ودنيوية، حيث كل هذا هو أثر من أثر قراءته وتدبره والعمل به، وما ينبغي لنا باعتبارنا مسلمين ومؤمنين أن نحمد الله ونشكره جل جلاله على نعمة القرآن التي لا تضاهيها نعمة.

بركة القرآن تتجلى أولا في أنه بيان لكل شيء، فعبر أحكامه وأوامره ونواهيه يرسم لك طريق حياة ليس لك أن تبذل فيها جهدا كبيرا لتستقيم، وإنما يوفر عليك ذلك الجهد لتبذله في الطاعة والالتزام به فقط، كما يعرفك بنفسك والكون من حولك وظواهر الصلاح والفساد، بل وكل ما تتطلبه الحياة الطيبة، وما يرديك عنها إن أنت اخترت طريقا آخر غير طريق الهداية القرآنية، وبالنسبة لي هذه من أعظم وأجل بركات القرآن في حياتي، لم أعد تلك المتخبّطة التي لا ترى إلا ضبابا أو سوادا في مسيرها وإن درست وحصلت على كل ما يتمناه المرء في الحياة الدنيا، وإنما أنا مع بركة القرآن في حياتي إن اتخذته منهج حياة في أمان من الضياع، وهل يرجى أكثر من هذا، أن تكون في حرز الله وحفظه، لتعيش السكينة والطمأنينة.

أرجع أيضا إلى مفهوم البركة بشكل عام، بركة في الرزق وفي الصحة وفي الوقت وفي الفهم وفي كل تفاصيل الحياة الدنيا والآخرة، والقرآن الكريم بعظمته التي لا ندركها مهما علمنا هو أساس البركة في كل ذلك لأنّه هو الهدى والشفاء والرحمة والموعظة والبشرى وكل ما يعينك على أن تكون تلك البركة التي هي الزيادة من الخير والنماء والمنفعة والتطهير والتزكية، والقرآن يعطيك مفاتيح كل ذلك، وهذه هي البركة في مفهومها العام والخاص.

لكل واحد منا سورة يحس أنها أقرب السور إليه، بحيث يجد لها حلاوة وتأثيرا خاصا، ما السورة التي تترك فيك هذا الأثر؟ ولماذا؟

الحديث عن سور القرآن وأقربها إلى نفسي أو التي تترك أثرا فيها، هو أمر متعلق بمرحلة عمرية عشتها في بداية ارتدائي للحجاب، وعودتي إلى رب العباد تائبة، ولا أقول أن رحلة التوبة وصلت محطتها المرجوة، وإنما هي ما زالت مستمرة إلى أن ألقى الله تعالى، نسأله الثبات، إلا أن بداية هذه الرحلة كانت لها بصمة قوية مع سورة النور، التي كانت من أوائل السور التي حفظتها مع مجموعة من الأخوات بحكم ما تتضمنه من آداب وأحكام، ولكن بصمتها فتحت عيني على عدالة هذا الدين، ولا زلت أذكر تلك المشاعر التي كانت تصاحبني وأنا أقرأها أو أحفظها، وهي مشاعر الاعتزاز بالذات كأنثى، حيث كنت أستنكر بشدّة تعرض المرأة لكثير من النقد الاجتماعي في كثير من التصرفات التي قد يقوم بها الرجل لكنه في حل من أي نقد أو متابعة لا لشيء إلا لأنه رجل. فعندما وجدت في سورة النور أن فعل الزنى مثلا يتساوى فيه الرجل والمرأة في العقاب، كما يقول الحق سبحانه: “الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ” [النور: 2] وكأنني وجدت كنزا ردّ إليّ بعض الاعتبار، حيث إن فعل الزنى في مجتمعنا كانت المرأة ولا زالت هي من تتحمل تبعاته النفسية والاجتماعية، في حين يبقى الرجل في حل من هذه التبعات فقط لأنه رجل. أيضا أمر تبرئة سيدتنا عائشة رضي الله عنها -وهي امرأة- من فوق سبع سموات بقرآن يتلى إلى أن تقوم الساعة، جعلني أرى وأستوعب بقلبي وعقلي وأنا في بدايات الطريق مكانة المرأة في الإسلام، فأن يهتم القرآن لأمر امرأة ظلمت في عرضها ويبرئها من فوق سبع سموات فهذا كان أمرا جد جد مهم بالنسبة لي، خصوصا وأنه كنت قد بدأت أقتنع بكثير من كلام بعض النسويات في ما يتعلق بوضعية المرأة ومظلوميتها وما يلصق بالإسلام في هذا الباب.

هذا كما قلت كان في البداية، أما الآن وأنا أقرأ كتاب ربي بعين أخرى وعقل أكثر نضجا وقلب واع معنى القرآن ومعنى كلام الله – وأرجو من الله أن يكون الأمر كذلك وأن يرزقنا الفهم عنه سبحانه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم – فالأمر يختلف، فقد أصبح لكل سورة مكانها ومعانيها ومددها وإمداداتها الروحية المعنوية؛ التي تتوزع بين ما يقربك من الرجاء من الله، وما يبث فيك الخوف من بعض مشاهد القيامة، وما ينبت في قلبك حب المولى عز وجل؛ فهو الإله والرب الغفور الرحيم المعطي الذي لا تنفد خزائنه ولا نيأس من رحمته وسعتها التي عمّت الكون بكل مكوناته ونحن نحسن الظن به سبحانه وهو أهل ذلك تبارك وتعالى، ويبقى لكل سورة أسرارها وأثرها الخاص بها على القلب والنفس.