أجرى موقع مومنات.نت، بمناسبة الحملة التي أطلقتها الهيئة العامة للعمل النسائي في موضوع “صلة الرحم”، حوارا مع الأستاذة نبيلة الرغاي، عضو الهيئة، عرفت فيه صلة الرحم ومكانتها من الدين وحكم قاطعها، وكذا الآليات المعينة على تحقيقها، كما تحدثت عن أثرها في تربية الفرد وتنمية علاقته بالله سبحانه وتعالى والدعوة إليه.. إضافة إلى محاور أخرى تصب في هدف التحسيس بقيمة الرحم وتقوية لحمة القرابة إنماء للروابط الأسرية ومن ثم المجتمعية فالآدمية؛ تتعرفون عليها في الحوار الآتي.
بداية، أستاذة نبيلة، نود أن تعطينا تعريفا لصلة الرحم في الإسلام؛ مكانتها من الدين، حكمها، وحكم قاطعها؟
الحمد لله رب العالمين الذي كتب الإحسان على كل شيء، حيث يقول سبحانه وتعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم القائل: (ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق).
معلوم أن الإسلام اهتم بصلة الرحم وأولاها عناية خاصة على مستوى الأسرة، فحث على الإحسان إلى الوالدين، حيث يقول تبارك وتعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، وبالمثل حث على الإحسان للأقرب فالأقرب في قوله: واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، بل ولقيمة صلة الرحم في تمتين المحبة والمودة وبناء العلاقات السليمة، جاوزها الحق تعالى إلى أبعد من ذلك؛ من الحيز الضيق للأسرة والقرابة إلى مستوى الإنسانية في مدلولها الشامل.
والصلة عند اللغويين؛ وصلت الشيء بغيره وصلا، فاتصل به، ووصلته وصلا، وصلة، ضد: هجرته، وواصلته مواصلة ووصالا، وهو مصدر وصل الشيء بالشيء: ضمه إليه وجمعه معه. قال ابن الأثير رحمه الله: “تكرر في الحديث ذكر صلة الرحم: وهي كناية عن الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب، والأصهار، والتعطف عليهم، والرفق بهم، والرعاية لأحوالهم، وكذلك إن بعدوا أو أساءوا. (المصباح المنير، مختار الصحاح، معجم لغة الفقهاء).
واصطلاحا: الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول؛ فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة، وتارة بالسلام، وتارة بطلاقة الوجه، وبالنصح، وبرد الظلم، وبالعفو والصفح وغير ذلك من أنواع الصلة على حسب القدرة والحاجة والمصلحة.
أما مفهوم قطيعة الأرحام لغة، يقال قطعت الثمرة؛ أي جددتها، وقطعت الصديق قطيعة؛ أي هجرته، وقطعته عن حقه؛ أي منعته. وهو مصدر قطع جمع قطائع؛ بمعنى الهجر وعدم الاتصال مع منع الخير.
واصطلاحا: هجر القريب، ترك وصله والإحسان إليه.
أما حكمها فقد أوجبها الإسلام وحرّم القطيعة، وجعلها من الكبائر التي تُدخل صاحبها النار، بل ومن كرم الله على الواصل أن جاد عليه بالوصل، وأي وصل بعد وصله تعالى، فهو الفوز برضاه سبحانه مقابل سخطه لمن يقطع رحمه، وتوعده بالشقاء في الدنيا والآخرة، فلا يجوز أن يقطع الشخص رحمه لأنهم قطعوه بل الأجر الأعظم في صلة من يقطع، وهو ما أكده صلى الله عليه وسلم في قوله: (ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها). ومن أدلة وجوبها نذكر:
عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن رجلا قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: (تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم) رواه البخاري.
وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) أخرجه ابن ماجة والترمذي.
وبالمقابل، عن جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنة قاطع) رواه البخاري ومسلم، بمعنى قاطع رحم، وبلفظ أبي داوود: (لا يدخل الجنة قاطع رحم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة) قال: (نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟) قالت: (بلى يا ربي) قال: (فهو لك) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرؤوا إن شئتم: فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم، أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها رواه البخاري ومسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله) رواه مسلم.
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: أنا الرحمن، وأنا خلقت الرحم، وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته) رواه البخاري وأبو داوود والترمذي.
أما فضل صلة الرحم، فهي فضائل جمّةٌ تعود على صاحبها بالنفع في الدنيا والآخرة، ونسوق بعضا منها:
هي سبب من أسباب دخول الجنة؛ ودليلنا في ذلك ما رواه الإمام البخاريّ في صحيحه عن أبي أيّوب الأنصاريّ أنّه قال: (أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أخْبِرْنِي بعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ، فَقالَ القَوْمُ: ما له ما له؟ فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أرَبٌ ما له فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ به شيئًا، وتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وتُؤْتي الزَّكَاةَ، وتَصِلُ الرَّحِمَ، ذَرْهَا قالَ: كَأنَّهُ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ).
هي أيضا علامة من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر، فقد جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الإيمان بالله تعالى والإيمان باليوم الآخر وبين صلة الرحم؛ حيث إنّ المؤمن الحقّ لا يقطع رحمه ويكون حريصاً على صلته، قال رسول الله: (مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ).
وهي سبب من أسباب الزيادة في العمر والبركة في الرزق، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (مَن أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، ويُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ).
أيضا هي سبب من أسباب نَيل صلة الله تعالى، فقد قال رسول الله: (إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الخَلْقَ حتَّى إذا فَرَغَ منهمْ قامَتِ الرَّحِمُ، فقالَتْ: هذا مَقامُ العائِذِ مِنَ القَطِيعَةِ، قالَ: نَعَمْ، أما تَرْضَيْنَ أنْ أصِلَ مَن وصَلَكِ، وأَقْطَعَ مَن قَطَعَكِ؟ قالَتْ: بَلَى، قالَ: فَذاكِ لَكِ).
وصلة الرحم صورة من صور طاعة الله تعالى؛ فقد أمر بصلتها، كما أنّها من المحاسن التي ورد الأمر بها في الدين، واتّفقت عليها الشرائع جميعها، ممّا يدلّ على عظيم مكانة صِلة الرحم ومنزلتها في ترابط الأفراد، وتراحمهم، وتآلفهم.
وهي علامة من العلامات التي تدلّ على اجتماع فضائل عديدةٍ في نفس الواصل، من الكرم، والوفاء، وغيرهما.
وهي سببٌ من أسباب انتشار المحبة، والألفة، والمودة، والتراحم بين الأقارب، ممّا يُؤدّي إلى نقاء القلوب تجاه بعضها البعض.
وهي من صفات المؤمنين بالله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) رواه البخاري ومسلم
وهي من أسباب قبول العمل، وهو ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم) أخرجه الإمام أحمد.
أما حكم قطيعة الرحم، فتعتبر من أعظم الذنوب وأخطر الآفات؛ كما أكدته نصوص الكتاب والسنة، ففي كتاب الله أمر تعالى بصلة الرحم حيث قال: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا وقال سبحانه: وآت ذا القربى حقه، والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا، وقال أيضا: فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل، ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون، وقال عز وجل: يسألونك ماذا ينفقون، قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم، وقال تبارك وتعالى: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، إن الله بكل شيء عليم، وقال تعالى: اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، والمعنى أنه تعالى قرن الأمر بتقواه بالأمر ببر الأرحام والنهي عن قطيعتها؛ وأنه كما يلزم القيام بحق الله سبحانه يجب القيام بحقوق الخلق، والأقربين منهم خاصة، بل القيام بحقوقهم هو من حق الله عز وجل الذي أمر به.
وفي نصوص السنة المشرفة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه) رواه البخاري. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (إنه من أعطي حظه من الرفق أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار، يعمران الديار ويزيدان في الأعمار) رواه الإمام أحمد. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر “أي زيادة في العمر”) أخرجه الترمذي. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم؛ فإنه لا قرب لرحم إدا قطعت وإن كانت قريبة، ولا بعد لها إذا وصلت وإن كانت بعيدة) أخرجه الحاكم وصححه الذهبي.
وقد كان سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم أوصل الناس لرحمه كما قالت سيدتنا خديجة رضي الله عنها له: “… والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعين على نوائب الحق…” رواه البخاري ومسلم.
فما هي الوسائل والآليات المعينة على صلة الأرحام، خصوصا إذا استحرضنا ما يعرفه عصرنا من تقدم تكنولوجي؟
من وسائل وآليات صلة الرحم؛ نستحضر قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: عن سليمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليم وسلم: (الصدقة على المسكين صدقة، والصدقة على ذي الرحم صدقة وصلة) رواه الإمام أحمد
وصلة الرحم أنواع، حسب الحاجة: فتكون بالنفقة لمن يحتاج ذلك، وتكون بالهدية، وبالتودد وبالعون والإعانة على قضاء الحاجات، كما تكون بالنصيحة، وبدفع الضرر وبالإنصاف والعدل والقيام بالحقوق والواجبات، وبتفقد الأحوال وطلاقة الوجه، وبالدعاء والزيارة، والتغافل عن الزلات وبالمسامحة والتغاضي عن الأخطاء… وبمعنى أشمل: إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الضرر. وقد جاء في فضل الإحسان إلى البنات والأخوات في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنس بن مالك: (من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو) (وضم أصابعه) في صحيح مسلم، وفي الترمذي (وأشار بأصبعيه). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يكون لأحد ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو ابنتان، أو أختان، فيتقي الله فيهن، ويحسن إليهن إلا دخل الجنة) أخرجه أبو داوود والترمذي وأحمد في المسند. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عال ابنتين، أو ثلاثا، أو أختين، أو ثلاثا حتى يبِنّ أو يموت عنهن كنت أنا وهو في الجنة كهاتين) أخرجه أحمد وابن حبان. وأفضل الصدقة ما يعطى للأقارب؛ يقول الإمام النووي رحمه الله في فضيلة صلة الرحم، والإحسان إلى الأقارب، (أنه أفضل من العتق).
وفى ظل التطور التكنولوجى الذى ساد العالم أجمع، أصبح هناك نزوح نحو الاكتفاء بالتواصل عبر وسائل التكنولوجيا دون الالتقاء أو الحديث المباشر، لدرجة أنك تجدين أفراد الأسرة الواحدة يعيشون عزلة تحت سقف واحد بسبب انشغال كل واحد منهم بمحموله الخاص. فقد تختزل صلة الرحم بإرسال رسائل في المناسبات والأعياد، عبر وسائل التواصل الإلكتروني أو على مواقع التواصل الاجتماعي “الواتس أب، فيس بوك، تويتر..” وغيرها من التطبيقات. وهذه الوسائل لا تعد بديلا عن صلة الرحم التي تحدثنا عنها آنفا، ولا يمكنها تعويض اللقاء المباشر مع ذوي الأرحام، والزيارة التفقدية للأهل والأقارب ومواساتهم ومساندتهم ماديا ومعنويا. رغم ما حققته هذه الوسائل من تقريب للمسافات وتوفير للجهد المادي والمعنوي في عناء السفر، لمن هم خارج البلاد ويصعب التواصل معهم، إلا أنها تبقى وسائل قاصرة عن تحقيق المقاصد الكبرى لصلة الرحم. وقد أثبت خبراء الأمراض النفسية والعصبية، أن التخاطب عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة تسبب ضمورا فى العلاقات الإنسانية نتيجة الوقع الافتراضى الذي تصنعه. كما أن هذه المخاطبة بالطرق الحديثة تؤدى إلى إلغاء إحساس المشاركة، فالكل يكتفى بإرسال رسالة أو إجراء مكالمة قصيرة، وبالتالى لن تتحقق النسبة الطبيعية فى الخطاب اللفظى ولغة الجسد والمشاعر، حيث أن النسبة الطبيعية التى تنتج من خلال العلاقات المباشرة هي 30% لغة خطاب و70% تواصل ومشاعر وهكذا، وعليه فإن الحديث عبر الوسائل الحديثة يفقد الإنسان الـ 70 % الخاصة بالتواصل المباشر، وبالتالى يؤدى إلى تباعد الناس عن بعضهم وفقد روح التعاون والمشاركة. وتأثير ذلك على الأجيال الصاعدة سيكون أقوى بفعل التعود، فقد أصبحنا نرى ممارسات وسلوكيات باتت أسلوب حياة تنم عن ضمور في العلاقات الإنسانية. لكن لا بأس أن تكون مكملة للقاءات المباشرة وخادمة لها لا معوضة.
هل نستطيع أن نقول أن صلة الرحم فن من فنون الدعوة إلى الله تعالى؟ وكيف ذلك؟
إن دعوة الأقارب والأهل والأرحام دلالة على الخير وصلة وبر، بل هي من أبر البر والإحسان، لأنهم أولى بهذا الحق من غيرهم، فصلة الرحم تجمع كل فنون الدعوة لما تفرضه على المعني بصلة الرحم؛ من آداب وحسن معاملة وخفض جناح وتودد وتغافل ومسامحة ورفق وحكمة وغيرها من الأخلاق الحميدة التي تغذي تلك الصلة وتوطدها مع ذوي الرحم. وصلة الرحم تفتح أبوابا كثيرة لتوطيد العلاقة وتمتينها، باعتبار سهولة الاحتكاك وكثرة مناسبات الالتقاء، وأشير أن ما يعزز هذه العلاقة هو القدوة الحسنة في أمور الدنيا والدين، التي تعتبر مدخلا مهما لقبول النصيحة عند اللزوم، فضلا عن الحضور الوازن في الشدائد وتسجيل المواقف النبيلة والمساندة الفعلية عند الاقتضاء، وكل ذلك لا يغنينا عن أهم شيء وهو الدعاء الدائم لهم، المسهم بالتأكيد في زيادة الألفة والمحبة، وتوطيد أواصر المودة، وتحقيق صلة الرحم التي أمرنا الله تعالى بها ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. والوازع في ذلك أن صلة الرحم تصل العبد بمولاه لذلك ينبغي أن تكون دعوة مؤسسة على نور قول الحق سبحانه ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، ومتأسية بالحال النبوي والأسوة المحمدية الذي كاد أن يصل إلى حد هلاك نفسه تأثرا على الذين لم يستجيبوا لدعوته، فخفف الله تعالى عنه من آلامه فخاطبه بقوله: فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا، وما ذاك إلا لأنه سبحانه هو الرؤوف الرحيم وأن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة. نقتدي به في هديه فنستشعر في القلب الرحمة تجاه من نصل من ذوي الرحم فنتهمم لهمومهم ونفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم.. ونخفض لهم الجناح.
فما أثر هذا الوصل تربويا على الشخص، في سلوكه الفردي إلى الله تعالى؟
صنف الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله صلة الرحم ضمن شعبة “الإحسان إلى الوالدين وذوي الرحم والصديق”، وهي الشعبة السادسة من شعب الإيمان، وشعب الإيمان البضع والسبعون ركائز سلوكية لا يمكن لطامح في مقامات الإحسان وسلوك طريق العرفان أن يتجاوزها أو أن يتنكبها، وإلا كان كمن يبني على غير أساس. يقول الإمام المجدد رحمه الله في كتاب الإحسان: (جند الله القادمين على الخلافة الثانية جماعة، القادمين على ربهم فرادى في دار الكرامة، لا مناص لهم من اقتحام العقبة النفسية الأخلاقية الاجتماعية، يخالطون الناس لأن «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» كما جاء في الحديث، ويبلغون الدعوة للناس، وأبلغ الدعوة أن يكونوا نموذجاً صالحا يسعى على قدميه في المجتمع، يُعلن بالمثال والاقتناع واللزوم عن أخلاق الإيمان، وجدية المؤمنين، وصدقهم، ولين جانبهم، ودماثة أخلاقهم، وأدائهم للحقوق، وزيادتهم الإحسانَ والخدمةَ والفتوَّةَ والتَطَوُّعَ..). إذا البر بالوالدين والإحسان إلى الأقارب وذوي الرحم من المعتقدات التي تثمر إيمانا في القلب وتمثلها في حياة المؤمن ؛ تسلك به إلى الله تعالى زلفى.
عندما نسمع كلمة “رحم” يتبادر إلى ذهننا كل من يحيط بنا وسط عائلاتنا، سواء من جهة الشخص؛ أبا، وأما، وإخوة، وعائلة الأب القريبة والبعيدة، وكذا الأم.. أو من جهة الزوج.. فمن هم ذوو الرحم في الشرع؟
الرحم التي أمرنا الله تعالى بصلتها، هي كل ما يرتبط بقرابة، سواء كانت من الأصول: كالآباء والأمهات وإن علوا، والفروع وإن نزلوا، والحواشي: من الإخوة والأخوات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، كما دل على أصل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه حيث قال: قال رجل: يا رسول الله، من أحق بحسن الصحبة؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك، أدناك) رواه البخاري ومسلم. وتختلف صلة الرحم بحسب درجة القرابة؛ فكلّما ازدادت القرابة، تأكّدت الصلة، وزادت شدّتها. والأرحام هم جميع الأقارب من جهة الأب، والأم، وإن بَعُدوا، كما بيّن ذلك ابن حجر الهيثميّ -رحمه الله-، وأضاف إلى ذلك استحباب صِلة الجيران، والأصدقاء، والصالحين، وإكرامهم، وبِرّهم، والإحسان إليهم. كما أنّ على الزوجين الإحسان إلى أقرباء الطرف الآخر؛ احتراماً للعشرة فيما بين الزوجَين، وتأكيداً على المَحبّة، والمودّة بينهما.
كيف نحافظ على هذه الفضيلة في مجتمع تفشت فيه الأنانية وحب الذات والأثرة..؟
بصلة الرحم يصلح المجتمع ويتماسك بنيانه، وذلك بحصول التآلف بين الأقارب في النسب، والأقارب في الجوار والأصدقاء والأصحاب. فهي تقوي الروابط بين أفراد المجتمع فيصبح كالبنيان المرصوص، كما تعزز مبدأ التكافل والتضامن والمحبة بين الناس. وصلة الرحم تجعل كل إنسان في المجتمع يشعر بقيمته في أسرته وفي مجتمعه، هذا الشعور بالانتماء يحفزه على العمل والعطاء وفعل الخيرات وحب الآخر والتخلص من الأنانية الفردية، لذلك لابد من تكريس هذه القيمة اجتماعيا في الأسرة والمدرسة والمسجد، والحث عليها إعلاميا عبر وسائل الاتصال والتوعية الجمعوية وغيرها من آليات التواصل والتربية، حتى نتمكن من رد خطر الفردانية الذي يهدد مجتمعنا الإسلامي بالتفكك وتحلل العلاقات الإنسانية ومن ثم بداية انهيار البناء الاجتماعي مقابل تضخم الذوات وترسخ المادية والأنانية.
كان الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى دائم الوصاية بصلة الرحم، هل تحضرك بعض الأقوال أو الأفعال في الباب؟
كان الإمام رحمه الله يقتفي أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسير على منهاجه، فما شهدنا بيته رحمه الله إلا عامرا بذوي أرحامه من الأقارب والأصهار والأصدقاء والإخوان، بين الضيف والمقيم والزائر، فكان يكرم كل من يلجأ إليه ويقضي حاجته رحمه الله وأعلى مقامه، وكانت زوجه للا خديجة رحمها الله وأعلى مقامها تسانده في هذا الأمر وتدعمه كليا، حتى إنها كانت تعتبر الإخوان والأخوات أبناءها، وكنا نشعر بذلك عند زيارتها. إضافة إلى أن الإمام المجدد كان يؤكد في كثير من مجالسه مع المؤمنين والمؤمنات على البر بالوالدين وعلى صلة الرحم، وكان يقول رحمه الله: “مسخوط الوالدين ما عندو ما يدير معانا هنا”. رحمه الله رحمة واسعة وألحقنا به مؤمنين محسنين.
تعدى مفهوم الرحم عند الإمام الأقربين إلى الأمة، بل والإنسانية جمعاء. حدثينا عن هذا الباب.
جدد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في المفاهيم البانية للنظرية المنهاجية، بحيث أعطاها دلالات أكثر عمقا وشمولية، ومن بين هذه المفاهيم المنهاجية: مفهوم الرحم الذي تجاوز الأهل والأقارب، ليشمل الأخوة في الدين؛ التي ترتكز على حقوق وواجبات تقتضيها الولاية الجامعة بين المؤمنين والمؤمنات، وأحكامها مفصلة في الشرع، لقوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. وفي الانسانية. ويعني بالإنسانية، الصلة الرابطة بين البشر وما يتشاركونه من قيم الحرية والعدالة والكرامة، فيقول رحمه الله في كتاب العدل الإسلاميون والحكم: (إن تكرمة الإنسان وإنصافه وكشف الظلم عنه وتحريره من العبودية للعباد، ديننا وعقيدتنا، لنا في الموضوع أصالة شرعنا، لا ننقل نقل البليد من ألواح غيرنا، ولا نتنازل عما رسمته شريعتنا)، فكمال إنسانية الإنسان بالنسبة للإمام مرتبطة بكمال حريته، وحفظ كرامة الآدمية التي تحقق الأخوة الإنسانية الجامعة، المبنية على احترام وحدة الأصل، ومقصد الخلق. وقد استقى هذا المعنى من مضمون رسالة سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، إلى وليه على مصر حيث قال: (الناس صنفان؛ أخ لك في الدين، ونظيرك في الخلق) ليضيف رحمه الله صنفا ثالثا سماه “المثلية البشرية” استنبطه من قوله تعالى: قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا.
وقد حدد الإمام المجدد ضوابط هذه العلاقات الإنسانية فقال في كتاب العدل: (فالأخوة في الدين لها واجباتها وحقوقها، والنظيرية في الخلق حقها أن نبَرَّ ونُقْسِط، والمثلية البشرية لا نتركها تسحبنا إلى أسفل). فبالنسبة للإمام حقوق النظيرية في الخلق، تنادي بها وحدة الرحم الآدمية التي تمثل أصل البشرية وأصل الأخوة الإنسانية، أما حق “المثلية البشرية”؛ فقد اعتبره الإمام داخلا في عموم أمة الاستجابة، أي حقهم علينا إبلاغهم دعوة الإسلام.