تأكيدا لمحوريتها وقيمتها في مسار المشروع الإسلامي، أفرد لها الوحي الإلهي سورة “الأنفال”، تناولت غزوة بدر الكبرى، سياقا واستعدادا وإعدادا وتوجيها تربويا وميدانيا وشروط نصر ومحددات التعامل مع الأسرى وتوزيع الغنائم ومعايير التحزب لله التي ختمت بها السورة.
وإذا كانت العناية الإلهية قد تكفلت بترتيب أسباب غزوة بدر الكبرى وتدبير مجرياتها ومخرجاتها ميدانيا، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا؛ فقد جاءت أمّ المعارك حُبلى بالدروس والعبر لتبقى عنوانا للعزة والتمكين لدين الله وعباده الصادقين، نوردها ملخصة تعميما للفائدة، ومنها:
أولا: دروس عقَديّة، وفيها ثلاثة أمور:
1. النصر بداية ونهاية من الله، فهو سبحانه الفعال لما يريد بصرف النظر عن العوامل المادية من عدة وعدد وإعداد. يقول عز سلطانه في سورة آل عمران: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْر وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(123). وفي سورة المجادلة جاء التأكيد أبلغَ ما يكون: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(20). وتحقيقا للمشيئة والقدر الإلهيين، تكفل الحق سبحانه بتوفير عوامل تنزيل قدره، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً، ومن ذلك:
– ترتيب الحق سبحانه موعد اللقاء: يقول عز سلطانه: إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً.
– تهيئ الأسباب النفسية والمعنوية لدى الفريقين: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فـِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُور.
2. ثانـي الدروس العقَدية إخلاص النية لله: ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورياء الناس. فالأعمال بالنيات بداية ونهاية.
3. ثالثها حسن التوكل على الله: ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم.
ثانيا: دروس تربويّة، وفيها خمس قواعد منها:
1. دحض قاعدة “النصر للأقوى”، وتثبيت قاعدة “النصر للأتقى”. يقول تعالى في سورة البقرة: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.(247).
2. الدعاء والتضرع: إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم.(الأنفال:9)
3. التصافـي ومحاربة الشحناء: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم؛ وقوله عز سلطانه: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم.
4. الثبات وعدم التولي عند الزحف: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار.
5. الاستجابة والطاعة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ.
ثالثا: دروس تنظيمية، وفيها أربعة أمور:
1. الإعداد والتخطيط: “أنت لا شيء، لكن لابد منك”، فلا قفز على سنن الله الكونية، وإنما يكون الإعداد بحسب المستطاع. وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم.
2. الشورى وصناعة القرار جماعيا: في سورة آل عمران جاء الأمر بالشورى لقوله عز سلطانه مخاطبا نبيه الكريم: فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر؛ وفي غزوة بدر كانت الشورى حاضرة الشورى عند اختيار مكان عسكرة المسلمين عملا برأي الحباب رضي الله عنه.
3. دوام التعبئة رفعا للمعنويات: يا أيها النبيء حرض المؤمنين على القتال.
4. القيادة الربانية والرحيمة في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حضورا ميدانيا وتهمما قلبيا بالأهوال والمخاطر التي تهددت المسلمين يومئذ. روى مسلم عن ابن عباس أن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ:
لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، قَالَ: نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ ثَلاثُ مِائَةٍ وَنَيِّفٌ، وَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَإِذَا هُمْ أَلْفٌ، فَاسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، وَعَلَيْهِ رِدَاؤُهُ وَإِزَارُهُ، ثُمَّ قَالَ: “اللهُمَّ أَيْنَ مَا وَعَدْتَنِي؟ اللهُمَّ أَنْجِزْ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلامِ، فَلا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا”. قَالَ: فَمَا زَالَ يَسْتَغِيثُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَدْعُوهُ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَرَدَّاهُ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، وَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: “إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ”.
وختاما وجب القول تذكيرا وتحفيزا وشحذا للهمم: إنه من أعظم الموافقات المبشرة تزامن غزوتي بدر وفتح مكة في ذات اليوم من شهر رمضان خلال ستِّ سنوات، في إشارة لطيفة إلـى جميل صنع الله تعالى وتهييئه لأسباب نصر الأمة وعزتها. يقول جل جلاله: وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
إن غزوة بدر الكبرى ليست حدثا تاريخيا ولى زمانه، وإنما هي معلمة تنير للمسلمين في كل زمان معالم طريق العزة والحياة الطيبة الكريمة، إذا استوفوا شروط التمكين والنصر التي تـــرشّح بها أهل بدر لتأييد الله تعالى، فرمى بهم، ونال بهم من عدوهم.
غزوة بدر الكبرى تبعث في النفوس الصادقة الـمتحرقة على ما نزل بالمسلمين اليوم من ذل وهوان أملَ النصر والتمكين للأمة متى هيأ الله تعالى لها قيادة ربانية مجاهدة.
غزوة بدر الكبرى معنى متجدد في الأمة عندما تنفض عنها غبار قرون الانقياد والوهن وتهب لتحق الحق وتبطل الباطل، ولسان حالها يقول: “على أيدينا نسأل الله عز وجل أن ينزل قدره”. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. صدق الله العظيم.