استجابت نساء العهد النبوي لنداء الحق، ضاربات أرقى الأمثلة في الدعوة والجهاد والتضحية في سبيل الله، نموذج تاريخي جامع لكل الكمالات، سجل حضورا بارزا وقويا في المشروع التغييري النبوي، الذي نقل الإنسان من عبادة الأوثان إلى عبادة الواحد الدَّيان، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، نموذج مثال للمرأة القوية المسؤولة والفاعلة في كل المجالات.
حاضنات دعوة
انخرطت الصحابيات بعمق في المشروع الدعوي منذ فجر البعثة حاضنات للدعوة. فالسياق الزمني الذي يسبق غزوة بدر يبرز الدور الريادي لهن، كانت فيه السيدة خديجة رضي الله عنها رمزا للمجاهدة الحاضنة للرسالة، فقد قال عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: “والله ما أبدلني الله خيراً منها، فقد آوتني حين طردني الناس ونصرتني حين خذلني الناس وصدقتني حين كذبني الناس..” 1، وعلى نهجها سارت من التحقت بالدعوة من المهاجرات مفارقات للأهل والديار، صابرات على أشد أنواع العذاب والتنكيل، ومن الأنصاريات مواسيات باذلات للنفس والنفيس نصرة لدين الحق وبرهانا لصدق الاتباع.
دور محوري أثبت رباطة جأش ورجاحة عقل وحكمة تدبير في أحلك اللحظات، فهن خريجات المدرسة النبوية التي صاغت شخصيتهن البطولية وجعلت منهن داعيات متميزات.
صانعات قادة
الميزان السطحي للأمور يحصر مشاركة الصحابيات في الصفوف الخلفية، والواقع أنها كانت باعث القوة على تنظيم الصفوف الأمامية، ومبعث العزيمة والإرادة الفاعلة، عُدّة قلبية ودعم نفسي لشباب فتي، حصون منيعة لقواعد جهادية، يتقدمون الصفوف يقينا في موعود الله وعشقا للشهادة في سبيل الله، صحابيات صابرات محتسبات غرسن في القلوب معاني الرجولة الصادقة، وثابرن متعهدات للغرس يسقينه معاني الثبات والتثبيت، مستجيبات لنداء الله عز و جل: “وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل” (الأنفال، 60).
“أسلم عبد الله بن عباس وهو غلام صغير مع أمه قبل إسلام العباس، أم مؤمنة أنقذت ابنها من الكفر في أشد الظروف تعسرا، قال بن عباس: “كنت أنا و أمي من المستضعفين، أنا من الولدان وأمي من النساء” رواه البخاري . طفل تبع أمه إلى الهدى، لم يقعد مع أبيه على دين قومه. درس تربوي لصانعات المستقبل” 2.
كان حارثة بن سراقة أول شهيد في غزوة بدر، ارتقى إلى ربّه رغم صغر سنه، أمه الربيع بنت النضر الأنصارية تأتي النبي وتقول: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء، فقال: “يا أم حارثة إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى” 3.
“اكتملت فيها التربية فهي منها فائضة كالنبع الكريم يجود، اكتمل فيها الوعي وتكامل بين وضيفتها الأمومية، وجهادها الحركي، وإعدادها القوة للتغيير التاريخي الطويل النفس” 4.
حاملات مشروع
مدرسة متنقلة عبر الأزمنة، هن الصحابيات الجليلات رضي الله عنهن بمشروع تربوي ميزانه عُمَرِي فيه سبق وحظ وغناء، تربية أنتجت إرادة وإقبالا كليا على الله عز وجل، “إرادة الله كانت الباعث، وخشية الله كانت الرقيب، وحب الله ورسوله كان سعادة الحياة. إرادة جامعة بانية فاعلة” 5 وبمشروع جهادي تعبأت الصحابيات فيه بعزم وصمود.
استحقت أم ورقة بنت عبد الله أن يسميها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهيدة لأنها استأذنته يوم بدر للخروج معه لمداواة الجرحى لعل الله يرزقها الشهادة. “شاركت الصحابيات رضي الله عنهن مشاركة متميزة في إنشاء خير أمة أخرجت للناس، واخترن الإسلام باستقلال، وتحملن الأذى، وقدمن أول شهيدة، بل أول نفس، هي سمية أم عمَّار بن ياسر رضي الله عنهما”.
وبمشروع إبداعي خلَّدن فيه رسالة أخلاقية في التمريض والإسعاف، كانت رفيدة الأنصارية مبادرة في تطبيب الجرحى لتنشأ بعد ذلك أول مستشفى ميداني في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الصحابيات مصابيح منيرة لنساء العالمين تسعد كل مؤمنة طالبة كمال أن تقتفي أثرهن وتحذو حذوهن، قال تعالى: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده (الأنعام، 90). نموذج نستلهم منه الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله اقتحاما لكل العقبات الحسية والمعنوية طلبا لما عند الله صبرا ويقينا في موعود الله.