يعيش المشهد المغربي على وقع احتناق عام بعناوين اجتماعية واقتصادية، هي نتاج مباشر لسياسات رسمية متبعة، يتواصل انعكاسها السلبي على كرامة المغاربة وحريتهم ومعيشتهم، كما يتبين معها تصدع ميزان العدالة الاجتماعية الذي راحت ضحيته فئات واسعة من أبناء هذا الشعب.
فرغم بعض “المظاهر الإعلامية” التي أقدمت عليها السلطات في الأسبوع الماضي لامتصاص الغضب حول ارتفاع الأسعار، واصلت أسعار الخضراوات هذا الأسبوع ارتفاعها المرهق، لتشكل إلى جانب باقي المواد الأساسية أحد عناوين هذا التصدع، الذي استمرت حوله ردود الأفعال، لتزيد معها من منسوب الاحتقان الشعبي، في صورة مركبة اجتمعت فيها كل المتناقضات لتعكس حقيقة السهام الموجهة إلى السلم الاجتماعي للمغاربة.
ما حقيقة “ارتفاع الطلب” و”قلة العرض” في ارتفاع الأسعار؟
من أسباب ارتفاع الأسعار؛ تزايد مستويات طلب السلعة مع قلة عرضها في السوق، ما يعني أن البضاعة ترتفع قيمتها بالعملة المحلية مقارنة مع ما كانت عليه، لكن في المغرب ليس الطلب هو السبب فيما وصلت إليه أثمنة الخضراوات، لأن الطلب مستقر، بينما الإشكال في قلة العرض لأسباب متعددة منها التصدير الكبير ومنها الاحتكار كما أثار ذلك عدد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، مما أثار حفيظة المغاربة خاصة في أثمنة المواد ذات الاستهلاك اليومي.
قابلنا في إحدى أسواق مدينة الدار البيضاء الشاب “منصف” وهو بائع ذو الثلاثين عاما، وأكد لنا أن عدد الشاحنات التي تزود أسواق المدينة يوميا بالخضراوات انخفض عن العدد الطبيعي. موضحا أن سبب ذلك مرتبط بفتح الأسواق الأوروبية والأسواق الإفريقية، فقال: “كانت الطماطم مثلا تصدر إلى أوربا، وما تبقى منها يوزع على الأسواق المغربية، بينما الآن يوزع ما تبقى منها على إفريقيا، والقليل القليل المتبقي للأسواق المغربية، فمن الطبيعي أن يحتدم الصراع للظفر بتلك الكمية من قبل الجميع”.
وفيما أثير عن ارتفاع الطلب حول الخضراوات، باعتباره من أسباب الغلاء، ذهب “منصف” إلى أن هذا الكلام غير دقيق، فقال: “لا يمكن أن نقول هناك تزايد الطلب في مقابل قلة العرض خاصة في الأشهر الماضية، الطلب ثابت ومعروف، لكن العرض هو الذي اختل، فطبيعي أن يرتفع الطلب ويرتفع معه السعر، والسبب في ذلك مرتبط بالاستراتيجية التي اتبعتها الدولة في التصدير لأوروبا وإفريقيا دون مراعاة الاستهلاك الداخلي العام”، موضحا أن زيادة الطلب في الأسواق المغربية مرتبطة بمواسم معينة وعلى سلع معينة، ومع دخول رمضان قد نسجل هذه الملاحظة فعلا، يقول المتحدث.
من يتحكمون في أثمنة الخضراوات هم أصحاب رأس المال أو “مالين الشكارة”
إذن هذا هو السبب الوحيد في ارتفاع الأسعار؟ سألنا الشاب “منصف” الذي نفى ذلك، مشددا على أن هذا ليس السبب الوحيد، حيث اعتبر أن ارتفاع سعر المحروقات أسهم من جهته والمسؤول عن ذلك أيضا هي الدولة، “لأن الشاحنة التي كانت تنقل البضاعة من أكادير بقدر مالي معين لتغطية تكاليف البنزين، لم تعد تكفيها وبالتالي فإن مصاريفها الإضافية تعوضها من ثمن تلك البضاعة، وهذه مسألة طبيعية” وكان بإمكان الدولة أن تتدخل منذ مدة بإجراءات استباقية لخفض أثمنة المحروقات، لأن ارتفاعها يعود بالسلب على كل المجالات المرتبطة بها.
ولفت بائع آخر “عبد الرحيم” ذو الأربعين سنة في سبب آخر إلى أن المتحكمين في هذه المنتجات والخضراوات هم أصحاب رأس المال “مالين الشكارة” بتعبيره، فهم من يتحكمون في جزء مهم من أسعار هذه الخضراوات، مستغلين لفراغ في القوانين والحرية التي يتمتعون بها في تحديد الأسعار، أما هامش الربح لدى الفلاحين الصغار فهو قليل جدا.
وعمَّا يروج حول ثبات ثمن البيع من مصدره كما كان، وأن الزيادات فقط مرتبطة بالباعة في الأسواق، قال “عبد الرحيم”: “هذا مجرد كلام، فحتى إذا فرضنا أن هذا الكلام بريء، فإن الفلاح أيضا يشتكي من زيادة أثمنة البذور وارتفاع تكاليف الأسمدة ومستلزمات الرعاية الفلاحية، بما في ذلك المحروقات التي يتوقف عليها نظام سقي الضيعات الفلاحية”، فالزيادات عامة بما في ذلك المصدر، يقول المتحدث، لكن الحلقة الأكبر في هذه الزيادات مرتبطة بـ “مالين الشكارة”.
قابلنا سيدة أخرى هناك وسألناها، كيف تواجهين موجة الغلاء هاته؟ ردت بلغة امرأة مغلوبة على أمرها فقالت: “المسكين الضعيف في هذا البلد لم يعد له إلا الله”، موضحة أن سومة تسوقها التي كانت تكفي لمدة أسبوعين لم تعد تكفي حتى لأسبوع واحد، “لم أعد أشتري كل الخضراوات، أشتري نوعين اثنين فقط أو ثلاثة، أو أشتري القليل القليل من الأنوع الأساسية التي لا بد منها، فلم تعد لدينا القدرة على تغطية كل المصاريف كما كانت” تقول المتحدثة.
واعتبرت أن الزيادات في أسعار المواد الأساسية والخضراوات في ظل استقرار قيمة الأجور لا يقبله منطق “فزوجي تضاعفت عليه مصاريف المعيشة لكن أجرته التي يتقاضاها ثابتة، فإذا أرادوا زيادة الأسعار فلا أقل من زيادة الأجور معها”، قبل أن تختم كلمتها “الله اهديهوم أولدي خاص المسؤولين إراعيو للمسكين راه هادشي ماشي معقول”.
ما مسؤولية “المخطط الأخضر” و”الجيل الأخضر 2020-2030″ فيما يقع؟
قد يكثر الحديث عن ارتفاع الأسعار، وتتعدد الأسئلة حول الأسباب المؤدية إلى عدد من المظاهر الاجتماعية التي لها طابع اقتصادي أو سياسي، لكن بالعودة إلى السياسات الرسمية المؤطرة لممارسات مؤسسات الدولة، قد نجد فيها نفسها ما يُزيل اللبس، ويكشف الغموض.
فالمخطط الاستراتيجي “الجيل الأخضر 2020-2030” الذي تعدُّه الوزارة الوصية على القطاع الفلاحي ثمرةً لمجموع مكتسبات مخطط “المغرب الأخضر”، يختزن في صفحاته جزءا من الجواب، حيث عُدت فيه “استدامة التنمية الفلاحية” ركيزة من ركائز هذه الرؤية، وكان الهدف منها هو الرفع من الناتج الداخلي الخام الفلاحي إلى الضعف، مع مضاعفة حجم الصادرات.
فمن خلال هذا الهدف يتضح أن السنوات التي يمتد فيها تنزيل هذا المخطط تؤطرها هذه السياسة التي ترمي إلى تسجيل الأرقام التصاعدية في الناتج الداخلي الخام، من أجل الاستمرار في مضاعفة حجم الصادرات، ما يعني استمرار اضطراب التوزين بين التصدير الخارجي وإمداد السوق الداخلية لتحقيق الاكتفاء الذاتي، والحفاظ على مستوى معقول في نسب التضخم.
هذه السياسة في حقيقتها تحمل إشارتين تترجمان هواجس تسويق سمعة الاقتصاد المغربي خارجيا ومستوى تعافيه لدى المؤسسات الدولية على حساب جودة الحياة لدى المغاربة، خاصة مع غياب مؤشرات وإجراءات موازية لدعم القدرة الشرائية للمواطنين كي يتمكنوا من الاندماج في السياسات الاقتصادية للدولة، عوض تركهم يواجهون مصيرهم في كل موجة غلاء تسببت فيها الدولة نفسها. وإذا رأينا بعض الدول التي تستفيد من الصادرات المغربية ليس في أوربا ولكن في إفريقيا جنوب الصحراء لها مؤشرات متقدمة على المغرب في سلم التنمية البشرية على سبيل المثال، تتأكد لنا صحة الهواجس الاقتصادية التي أشرنا إليها دون التفكير في مصلحة المواطنين.
زيادة “قياسية” في الصادرات اعتبرتها الوزارة “إنجازا” لم تكن إلا على حساب السوق الداخلية
وما يؤكد هذه الهواجس في هذا “الجيل الأخضر” هو أن الحكومة المغربية سعت إلى خفض تكلفة الإنفاق باستثمار رصيد المبادلات مع الخارج، وذلك بتوسيع الفرق بين الصادرات والواردات، كما أنها سعت إلى تأكيد تطور الناتج الداخلي الخام باعتباره المؤشر الذي يستدل به في جميع بلدان العالم على صحة الاقتصاد، وباعتبار نموه أيضا دليلا على خلق الثروة والاستثمار وزيادة فرص الشغل، في حين أن انكماشه يؤشر على عكس ذلك.
وقد أشارت الوزارة إلى ذلك في تقرير نشرته في موقعها الإلكتروني الشهر المنصرم، موضحة أنه “لأول مرة تجاوزت صادرات المنتجات الغذائية الفلاحية والبحرية عتبة 80 مليار درهم سنة 2022 وسجلت زيادة قدرها حوالي 20٪ مقارنة بسنة 2021”. وهذه الزيادة القياسية التي اعتبرتها الوزارة إنجازا، لم تكن إلا على حساب السوق الداخلية، التي وصل فيها الغلاء ما وصل. وبالتأكيد فإن الحكومة لن يكون طموحها أقل من الحفاظ على هذا الرقم أو تجازوه سنة 2023.
وإذا علمنا أن الرفع من الناتج الداخلي الخام في النهاية يبقى مؤشرا فقط على حجم الثروة التي تعود ضرائبها المرتفعة إلى خزينة الدولة خلال المدة المحددة، فإننا نعلم معه أيضا أنه ليس مؤشرا ينعكس بشكل مباشر على تحسين معيشة الناس وتحقيق رفاهيتهم.
ولا يمكن إغفال إشارة مهمة متعلقة بهذا المخطط الأخضر وصنوه المرتبط به، وهي متعلقة بتحرير سوق المنتجات الفلاحية، وتمكين الفاعلين في القطاع مما وصفته الوزارة الوصية بـ“مسؤولية أكبر ومزيد من الاستقلالية من أجل تدبير فعال للموارد العمومية”.
وهو سلاح ذو حدين، فهو وإن كان آلية لترسيخ مناخ التنافسية ولتشجيع الاستثمار، فإنه في الآن نفسه يضع المواطنين تحت رحمة أصحاب رأس المال المتحكمين في السوق، لتحديد الأثمنة وفق هواهم، وتحت رحمة منطق المضاربة، في غياب رقابة حقيقية لاسيما وأن عددا من أصحاب رأس المال هم من رجالات الدولة أساسا، فكيف تفرض الدولة رقابتها على رجالاتها الذين يحكمهم منطق مراكمة الأموال، فضلا عن سياسة الإعفاءات الضريبية لكبار المستثمرين في المجال الفلاحي بداعي تشجيع مناخ الاستثمار وجلب المستثمرين؟!
الظرفية الاقتصادية العالمية ليست مبررا للغلاء المبالغ فيه
وفي تفاعل السلطات مع الغلاء الذي أثار موجة من الاحتجاجات، شكلت لجان المراقبة التي تناقل رواد مواقع التواصل الاجتماعي صورا وفيديوهات عن جولاتها في الأسواق، وقابلوها بالسخرية والاستهزاء، في إشارات على أن هذه الخطوة غير ذات جدوى ولأنها خطوة لامتصاص الغضب الشعبي.
فلا يمكن لجولات في الأسواق أن تكون جوابا عمليا مقنعا لاعتبارات، أهمها أن الأثمنة لا ترتبط بالباعة في الأسواق في وقت يوجد فيه من يتحكم في الأسعار من مصادرها من أصحاب رأس المال، ولا يمكن مواجهة هذه الظاهرة بجولات الغرض منها هو الاستعراض لتخفيف الضغط.
فبالرغم من أن الغلاء بصفة عامة مرتبط بالظرفية الاقتصادية التي تمر منها عدة دول، والارتفاع يهم أيضا الخضر التي تنتجها التربة المغربية، لكن هناك قناعة عامة لدى فئات كثيرة من الشعب تقول إن هذه “الظرفية الاقتصادية” أصبحت مظلة ومبررا تجاوز كل الحدود في هذه الزيادات، التي يكتوي البسطاء بنيرانها، وهم أكبر المساهمين بضرائبهم في إنتاج تلك المنتوجات.