ربيع يعيد للأمة بسمتها بعد بكاء

Cover Image for ربيع يعيد للأمة بسمتها بعد بكاء
نشر بتاريخ

يطلّ ربيع الأول على قلوبٍ أنهكها ليلٌ طويل، كغيثٍ يسقي أرواحًا عطشى، وكفجرٍ يشقّ ستار العتمة. فما إن يهلّ ذكر مولد الحبيب المصطفى ﷺ حتى تهتزّ الأرواح شوقًا، وتنتفض القلوب حبًا، كأنما وُلدت من جديد. فمولده لم يكن حدثًا عابرًا في دفتر الأيام، بل كان إشراقةً غيرت وجه التاريخ، وبدايةً لمسيرة رحمةٍ ممتدة لا تنقطع.

إنه ربيع المحبة، ربيع لا يتوقف عند حدود الزمن، بل يظل متجددًا في الأرواح كلما عصفت بها رياح الخريف، وإذا كانت الطبيعة تتعرى في الخريف وتذبل، فإن مولده ﷺ يكسو أرواحنا بربيعٍ دائم الاخضرار، ربيعٍ يوقظ القيم، ويردّ القلوب إلى أصلها النوراني.

لكن المفارقة الموجعة، أن هذا الربيع يطلّ على أمةٍ تثقلها الغثائية وخريف الانكسار، وتنهبها قوى البغي والعدوان، وتغشاها غيوم التخاذل والخذلان. في زمنٍ تُغلق فيه الأبواب على غزة، ويُحاصر أهلها جوعًا وعطشًا، ويُقتَّل أطفالها تحت أنقاض البيوت، ويقف العالم متفرجًا أو شريكًا في الجريمة. ما أشبه هذا الزمن بزمن الحصار في شعب مكة، فقد جاع النبي ﷺ وصحابته حتى أكلوا أوراق الشجر، وأُريد لهم الفناء، لكن الله جعل من المحنة بدايةً لمنحة، ومن الجوع بابًا إلى النصر.

إن غزة اليوم تذكّرنا بمعنى المولد الحقيقي؛ أن مولد النبي ﷺ لم يكن ترفًا تاريخيًا، بل كان ميلاد رسالة مقاومة للظلم، وقيامًا مع المستضعفين، وبناءً لصرح العدل في وجه الطغيان أن نحتفل بمولده ونحن نرى غزة تذبح، يعني أن نستعيد روحه فينا، أن نجعل من سيرته منهاجًا للنصرة، أن نوقن أن الطغيان وإن اشتد، فإن الله متم نوره ولو كره الكافرون.

وها هو طوفان الأقصى اليوم يعيد للأمة بعضًا من ربيعها المفقود، يصفع وجوه المعتدين، ويعرّي زيف المطبعين، ويذكّرنا بوعد الله الحق فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّة (الإسراء/الآية 7). وما كان هذا الوعد ليقترن إلا بالمنهاج النبوي، بالعدل والرحمة، وبالإيمان الذي لا يلين.

فالمولد النبوي بهذا المعنى ليس قصائد ولا أناشيد فقط، بل هو تجديدٌ للعهد؛ أن نكون أمة حية في وجه الموت، أن نكون ربيعًا في قلب خريف، أن نقف مع المظلومين حيثما كانوا، وأن نجعل من فلسطين قضية الأمة الأولى، برهان صدق المحبة والوفاء للنبي ﷺ في قلوبنا. فمن أحبّه صدقًا، أحبّ ما أحبّ، ونصر من نصر، ووقف حيث وقف.

فيا أمة محمد ﷺ، اجعلوا من هذا الربيع ميلادًا جديدًا للكرامة، واجعلوا من المولد الشريف طاقةً تذيب جليد الصمت، وتكسّر قيود الخوف، وتردّد مع كل طفل في غزة، ومع كل شهيد في الأقصى: إن دماءنا جسورٌ إلى النصر، وإن حب النبي ﷺ ليس كلمةً على الشفاه، بل عملًا في الميدان، وصمودًا في المحن، وإيمانًا بأن فجر الأمة آتٍ مهما طال ليلها.

الربيع النبوي ربيع متصل لا ينقطع، ربيع المحبة واليقين، ربيع يعيد للأمة بسمتها بعد بكاء، ويغرس في القلوب أملاً بعد يأس. وإن كانت غزة اليوم في عين العاصفة، فإن في ذكراه ﷺ يقينًا أن النصر يولد من رحم الابتلاء، وأن ربيع الأمة سيخضرّ من جديد، على أنقاض خريف الطغاة.

وإن كانت غزة اليوم في عين العاصفة، فإن في ذكراه ﷺ يقينًا أن النصر يولد من رحم الابتلاء، وأن ربيع الأمة سيخضرّ من جديد، على أنقاض خريف الطغاة.

فيا مولد النور، يا سرّ البقاء، ها نحن نستنير بذكراك في زمنٍ توحّش فيه الظلام، ونوقن أن خطاك لن تُمحى من دروبنا، وأن ربيعك سيظل ممتدًا حتى يزهر الأقصى من جديد. ما أشبه الأمة اليوم بمريضٍ يتلمّس الشفاء، فإذا بذكراك بلسمٌ لجراحها، وصوتك نداءٌ يوقظها: “قوموا، فإن الليل زائل، وإن فجر الحق قريب”.

اللهم اجعل من ربيع مولده ﷺ بداية ربيعٍ لهذه الأمة، يبعثر غيوم الخوف، ويكسر قيود الذل، ويرفع رايات العز فوق مآذن القدس وغزة، حتى نحتفل بمولده القادم ونحن نشهد الأقصى حرًا، وفلسطين محررة، والأمة عائدة إلى حضن نبيها، لا في الذكرى فحسب، بل في المعنى والواقع والوجود.