منذ أن نزل الوحي بأول أمر إلهي للبشرية: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 1، ارتسمت خريطة الطريق لنهضة الإنسان، رجلا كان أو امرأة. فالعلم في الإسلام عبادة، والتكوين رسالة، والمعرفة سبيل إلى تحقيق العدل والإحسان.
ومن هذه الرؤية انطلقت حكاية “فاطمة”، فتاة نشأت في قرية بسيطة حيث كانت فرص التعليم محدودة، خاصة للفتيات. لكنها آمنت بأن العلم فريضة لا تعرف الفرق بين ذكر وأنثى، فجعلت من التعليم سلما لتجاوز حدود قريتها الصغيرة، ومن التكوين طريقا لخدمة مجتمعها والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
كانت فاطمة تجلس قرب نافذة بيتها الطيني في إحدى القرى، تحدق في الأفق حيث تغيب الشمس خلف التلال. في يدها كتاب قديم كتبت فيه معلمتها بخط بسيط: “اقرئي، فالعلم يرفعك إلى الله قبل أن يرفعك بين الناس”.
كانت تلك الكلمات تتردد في ذهنها كلما شعرت بالتعب أو الإحباط. تتذكر فاطمة قول أمها وهي تشجعها على مواصلة دراستها رغم قلة الإمكانيات: “تعلمي يا ابنتي، فالعلم عبادة”، ويتردد صدى الحديث الشريف الذي كان يقرأه عليها أبوها كلما رأى منها ترددا أو عجزا: “طلب العلم فريضة على كل مسلم” 2.
في تلك اللحظات الهادئة قرب النافذة، كانت فاطمة تستجمع قواها وتجدد عزيمتها. كانت مدركة بفطرتها السليمة، أن الإسلام لم يميز في طريق العلم بين رجل وامرأة، وأن العقل نعمة والجهل نقمة، فقررت أن تكون مثالا حيا لهذه القيم، وتشق طريقها مهما كانت التحديات.
لم تكن رحلة فاطمة مفروشة بالورود، فحين أعلنت عن رغبتها في استكمال تعليمها بعد المرحلة الإعدادية، بدأت الهمسات تتسلل إلى أذنيها من هنا وهناك. نظرات الاستغراب من بعض أهل القرية كانت تلاحقها في الطريق إلى المدرسة: “البنت مكانها البيت”، “العلم للرجال”، “كفاها ما تعلمت من القراءة والكتابة”.
في إحدى الأمسيات، سمعت فاطمة بعض قريباتها يهمسن في أذن أمها بنبرة ناصحة: “علميها الطبخ والخياطة، هذا ما تحتاجه في بيت زوجها”. كادت الكلمات أن تهز عزيمتها، رغم أنها كانت حاذقة في شغل البيت مع والدتها، لكنها عادت إلى نافذتها المعتادة، وفتحت كتابها القديم لكيلا تفقد عزيمتها.
تذكرت الحديث الذي كان أبوها الفقيه يردده دائما: “إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه” 3. وتذكرت كيف كانت معلمتها تحدثها عن نساء عظيمات خلدهن التاريخ، كأم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها التي كانت مرجعا في الفقه والحديث، فكان الأكابر من الصحابة إذا أشكل عليهم الأمر في الدين استفتوها، فيجدون علمه عندها، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: «مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا عَائِشَة إِلا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا» 4، والشفاء بنت عبد الله التي علمت النساء القراءة والكتابة، ورفيدة الأسلمية التي مارست الطب في ساحات الجهاد… وغيرهن كثير.
هؤلاء لم يكن حالات استثنائية، بل كن نماذج حية يقتدى بها، جسدن قوله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ 5. قالت فاطمة في نفسها وهي تمسح دموعها: “إذا كانت أم المؤمنين لم تتوقف عن التعلم، فمن أنا لأستسلم لهمسات العابرين؟”.
كانت الإمكانيات محدودة: الكتب قليلة، المسافة إلى المدرسة بعيدة وشاقة، ولم تكن هناك مكتبات أو دور ثقافة للفتيات في المنطقة، لكن فاطمة لم تستسلم، استعارت الكتب من معلمتها، وانضمت إلى حلقات العلم في المسجد، والتحقت بإحدى مجالس الذكر والعلم حيث يتعلم فيها النساء ما يجب أن يفقهن من أمور دينهن بالضرورة، من فقه الفرائض والسنن والأخلاق وسائر العبادات.
ومع مرور الوقت كبرت فاطمة، وكبر معها تفكيرها وأحلامها. أيقنت أن العلم ليس رفاهية بل فريضة، وأن المرأة شريكة الرجل في التكليف والاستخلاف، وأنه لا عدل ولا إحسان إلا بوعي علمي راشد يفتح العقول والقلوب معا.
بدأت تستعير كتبا جديدة من مكتبة البلدة، وتعرفت على صديقات ومعلمات جدد فوجدت معهن ضالتها ونما طموحها. أقبلت على القراءة بنهم، فوجدت في الكتب امتدادا لتلك العبارة الأولى التي غيرت حياتها: “اقرئي، فالعلم يرفعك إلى الله قبل أن يرفعك بين الناس”. قرأت كيف خلد التاريخ نماذج نسائية عظيمة، نساء عالمات وفقيهات في كل المجالات، لم يكن حالات استثنائية، بل كن نماذج حية يقتدى بها.
ومن بين تلك الكتب مؤلفات الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله. وجدت في فكره تكاملا بين التربية والتعليم، وطريقا لتنشئة امرأة عاقلة عاملة محسنة؛ تعرف ربها وتعي دورها في صناعة التغيير.
كان كتاب “تنوير المؤمنات” بالنسبة إليها نافذة على رؤية تجديدية تعتبر تعليم المرأة ركيزة في بناء الإنسان المؤمن القادر على التغيير. قرأت قول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “إلى النماذج الكاملة من بنات البشر تشرئب أعناق المؤمنات، وإلى جهاد يلحقهن بهن -على درجة من الكمال- يتعبأن ويعبئن… إلى مريم ابنة عمران وصويحباتها في مقعد صدق عند مليك مقتدر… تتعلم الأجيال أن تقتحم، سباقا مع أبناء الدنيا، عقبات كسب القوة في الدنيا، وعين القلب على من جعلهم الله لنا أسوة” 6. كلما قرأت تلك الكلمات، ازداد إيمانها بضرورة التعليم، وتأججت في قلبها رغبة أعمق في المعرفة والعمل.
وذات يوم، سمعت فاطمة عن انطلاق دورة تكوينية في إحدى المدن القريبة. لم تتردد لحظة، فقدّمت طلب المشاركة وأظهرت رغبتها الصادقة في التعلم، فالتحقت بالدورة. وهناك اكتشفت أن التكوين ليس مجرد محاضرات ودروس، بل هو مسار متكامل يبني الإنسان من داخله؛ يجمع بين التربية الروحية التي تزكي القلب، والمعرفة التي توسّع المدارك، والممارسة العملية التي تنمّي المهارة وتكسب الثقة.
كانت فاطمة تشعر بأنها لا تتلقّى معارف فحسب، بل تتغيّر تدريجيا وتكتسب رؤية أعمق للحياة. وأدركت أن أي نهضة فردية أو مجتمعية تحتاج إلى أشخاص يجمعون بين صفاء النية وجد السعي، بين المعرفة والعمل. كما جاء في حديث النبي ﷺ عن هذا المعنى في قوله: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟” 7.
بعد تخرجها بميزة مشرفة، وجدت فاطمة نفسها أمام مرحلة جديدة. فقد أدركت أن زمنها لم يعد يشبه زمن الشفاء ورفيدة؛ فالعلم اليوم متاح للجميع عبر الهاتف والإنترنت، لكنه في الوقت نفسه محاط بفيض من المعلومات المربكة. لذلك كانت تؤكد دائما أن هذا الانفتاح يحتاج إلى وعي نقدي، وقدرة على التمييز بين المعرفة المنهجية والمحتوى السطحي، وأن التكنولوجيا يمكن أن تصبح وسيلة بناء إذا أُحسن توظيفها.
بدأت فاطمة تستخدم منصات التواصل لنشر مواد مبسطة، وتنظم لقاءات معرفية قصيرة عبر تطبيقات المراسلة، وتشارك اقتباسات تشجع على القراءة والتأمل، مع يقينها بأن اللقاء المباشر يظل أصلا لا يعوض.
ومع مرور الوقت، رافقت عددا من الفتيات في رحلتهن التعليمية. رأت كيف اكتسبت خديجة الثقة بنفسها، وكيف تعلمت مريم القراءة وأقبلت على القرآن حتى أصبحت تساعد غيرها، وكيف جمعت سلمى بين تخصصها العلمي واهتمامها بالمعرفة الشرعية، فانعكس ذلك خيرا على حياتها ومحيطها.
كانت فاطمة تدرك أن هذه التحولات لم تكن وليدة الصدفة، بل ثمرة تربية مستمرة تغير الإنسان من الداخل. فالتغيير يبدأ من النفس ويحتاج إلى صبر ومواظبة.
ومن هذا المنظور يتبين أن التربية ليست مجرد تعليم أو تهذيبٍ سلوكي، بل عملية أشمل وأعمق، تجمع بين البناء الروحي والفكري والسلوكي. وهو معنى يشير إليه الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله حين يقول: “فليست التربية هي التأديب على السلوك الاجتماعي فقط، وليست التربية تعليما فحسب، ولا عكس التعليم، وإنما التأديب على السلوك الاجتماعي جزء من التربية، والتعليم جزء منها” 8. فالتربية في جوهرها بناء متكامل يزكي النفس، وينير العقل، ويقوم السلوك، ويربط الإنسان بغاياته الكبرى.
وهكذا أدركت فاطمة أن التعليم لم يكن هدفا بذاته، بل وسيلة حية لبناء إنسان متوازن يجمع بين الإيمان والعقل، ويسهم – بقدره – في بناء مجتمع راشد قائم على الوعي والمسؤولية. فذلك هو جوهر التربية: قلب حي، وعقل نير، وعمل محسن.
وحيثما اجتمع عقل يتفكر وقلب يتزكى، تولد رحلة جديدة، هي زاد الآخرة وعمارة الحياة.
وتبقى الوصية ترافق السائرات على الدرب: اقرئي… ثم اعملي… وامضي بما علمت.
[2] حديث نبوي شريف، رواه ابن ماجه في سننه (كتاب السنة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، حديث رقم 224).
[3] الراوي: أبو هريرة | المحدث: الألباني | المصدر: السلسلة الصحيحة الصفحة أو الرقم: 342.
[4] أخرجه الترمذي في سننه، الترمذي، كتاب المناقب، باب فضل عائشة رضي الله عنها، حديث رقم 3883، وقال: “حديث حسن صحيح”.
[5] القرآن الكريم، سورة المجادلة، الآية 11.
[6] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج1، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، 1996.
[7] أخرجه الترمذي، باب في القيامة (4/ 612) رقم (2416)، وقال الألباني: صحيح لشواهده، المشكاة، رقم: (5197).
[8] عبد السلام ياسين، مذكرات في التربية، ط 1963/1، دار السُّلمي للتأليف والترجمة والنشر والطباعة والتوزيع – الدار البيضاء، ص 9.