الاختلاف أمر طبيعي يقره القرآن والعقل والعلم والتاريخ، ومن هنا فليس غريبا اختلاف البشر في الأفكار والتصورات، ولكن الغريب حقا هو سطو البعض على أفكار الآخرين وتحجيمها تارة، وتضليلها وقمعها ومحاولة طمسها تارة أخرى، لتسود العقلية الأحادية وأساليب الإقصاء، وقد سجل التاريخ الإسلامي بمداد من الفخر والإعتزاز ما قدمته المذاهب الفقهية المختلفة من تعايش وتكامل وتيسير على الأمة ورفع الحرج عليها، فسجل مرونة في الشريعة الإسلامية، وجعل أحكامها تساير كل مستجدات العصر، وتستوعب كل قضايا الناس في كل الأزمنة والأمكنة، يقول الدكتور يوسف القرضاوي “إن محاولة رفع الخلاف لاتثمر إلا توسيع دائرة الاختلاف، ذلك أن الاختلاف في فهم الأحكام الشرعية غير الأساسية ضرورة لا بد منها، والذي أوجب هذه الضرورة طبيعة الدين، وطبيعة اللغة، وطبيعة البشر”.
ولتعميق الفهم أكثر يذكرالقرآن الكريم في الآية 48 من سورة المائدة، قول الله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون هذه الآية تؤكد أن الله وحده الذي صيّر هذا الاختلاف وجعله من ثوابت النظام الكوني، فالاختلاف في الآراء والأفكار والتوجهات والمواقف سبيل تقدم العلوم ونشأة الحضارات ونمو المدارس الفكرية والمذاهب السياسية وغيرها، ما دام لا يمس بأصول الدين الثابتة وباب الاجتهاد فيه مفتوحا، وكل مجتمع يحاصر نمو هذه الاختلافات هو مجتمع سقيم عقيم، لا تنمو فيه الطاقات ولا تفجر فيه القدرات ولا تحرر فيه المبادرات.
وشتان بين الاختلاف العلمي الذي يثري الحياة الفكرية ويزيدها تطورا وتنوعا وبين الاختلاف المصلحي الذي يزيدها تخلفا وتنازعا، ويستثمره أصحابه في تصفية الحسابات مع أهل الرأي الآخر. ماذا لو ساد وتطور في الأمة اختلاف التنوع وغاب اختلاف التنازع الذي يفشل الأمة ويذهب ريحها؟ ماذا لو تحول اختلاف الأمة إلى ائتلاف يجمع قوتها ويرهب عدوها؟ وما هي شروط الائتلاف ودعاماته الأساسية؟
إن الاختلاف الفكري والعلمي والسياسي أمر ضروري بل طبيعي، وحق مشروع مادام يدعم حرية الإنسان في التفكير والتغيير والتعدد الإيجابي، فقد اختلف الأنبياء والصحابة بل وحتى ملائكة الرحمة وملائكة العذاب في قاتل المائة نفس كما ورد في الصحيحين، فاختلاف الأفهام والثقافات والمذاهب أمر إيجابي يوسع أفق الفكر ويفتح المجال الرحب للحوار والنقاش. لكن للاختلاف ضوابط وأخلاقيات تفرض نقدا عادلا يتجه للأفكار ويحترم الأشخاص ويقدر اجتهاداتهم، والابتعاد عن الاتهام والخصام والافتراء، وخضوعا للحجة والبرهان، وركونا للحوار الجاد القائم على احترام الثوابت الدينية، والفهم الصحيح الذي يفرق بين القطعي والاجتهادي، مما يفضي إلى قبول التنوع والتعامل معه، والتفاعل والتعاون على القدر المشترك وتفعيله، ومحاولة التعايش والاتفاق على مصالح الانسانية وعتق رقابها من وهدة ما تعيشه من تخبطات وأزمات على مستوى مختلف ميادين الحياة، وإن اقتضى ذلك التنسيق والوفاق مع من نختلف معهم بشكل جوهري، قال المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عن “حلف الفضول” كما جاء عند ابن هشام “لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت”. و”حلف الفضول” حلف للفضائل والمروءات يحمى بمقتضاه الضعيف والغريب بتحالف ذوي المروآت والكفاءات قبل مجيئ الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا الحسنة، هو من وضع مفتاح النبوة على قفل الجاهلية فصنع النموذج الحضاري في تاريخ الإنسانية. وقد اضحى التوافق والتنسيق بين الفضلاء أمرا ضروريا تفرضه ظروف المرحلة والتحديات المطروحة، والسفينة لا تحابي أحدا عند غرقها. قال الأستاذ عبد السلام ياسين في كتاب العدل ص 533 “إننا أيها الفضلاء نمد إليكم الجسور أن تعبروا إلينا، وأن تركبوا سفينة نوح وتسيروا في قافلة إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم”.
ولتحقيق التآلف والتحالف لابد من الوقوف على أسباب التخالف لتفاديها، وخاصة الخلاف في الأصول والمرجعيات الذي يعود سببه في الغالب إلى عدم الأخذ بالشريعة الإسلامية كلها علما وفهما وعملا، فإما في عدم استيعاب القطعي من الاجتهادي، أو لخلل في التزكية يفضي إلى الأهواء والعصبية.
ومن أسباب الاختلاف التي يجب تفاديها دفعا لفقه الائتلاف والتنسيق قدما:
1- العصبية التي ترصد أخطاء الآخرين وتتهمهم وتجانب العدل والإنصاف في حقهم.
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب
ولا ينال العلا من طبعه الغضب.
2- ضياع جسور الثقة بين الأطراف مما ينتج عنه صعوبة في الإلتقاء والوفاق لأنها تتعامل مع فكرة الإئتلاف والميثاق بالشك وفقدان الثقة رغم قناعتها بضرورة التوافق والتعاون كحل جدري تفرضه المرحلة.
3- غياب أو ضعف المعرفة بمقاصد الشريعة وأصول الدين، وعدم تشرب وتمثل آداب الإسلام وأخلاقه في التعامل مع المخالف، والتفريق بين ما هو اجتهادي وما هو قطعي من الدين.
4- الاختلاف في تقدير المفاسد والمصالح وهذا يحتاج إلى وقفة تفرز الغث من السمين وتقرب بين المفاهيم.
ومن دعامات الائتلاف والتحالف النظر فيما هو متفق عليه وتفعيله والتعاون عليه، وتمثل الأخلاق الفاضلة للتعايش والتقارب فيما اختلف فيه، ثم التجرد من حظوظ النفس والتعصب المهلك وسوء الظن بالآخرين، ونشر آداب الاختلاف وفقه الائتلاف.
ونرجع إلى الأصل فتفتح مغاليق قلوبنا بوحي الله عز وجل للرسل عليهم السلام حيث قال لهم إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون سورة الأنبياء 91، 92.
وقال عز وجل ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة. ولكن ليبلوكم فيما آتاكم المائدة، الآية 50.
وقال سبحانه ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين سورة الأنفال الآية 46.
اللهم اجمع شمل أمة حبيبك محمد على ما تحبه وترضاه، وسلام على المرسلين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.