حان وقت ولادة أمي، ذهب أبي بها مسرعا بسيارته إلى المستشفى، أما أنا فلم يخبروني بشيء إلى أن وضعت مولودها، كانت بنتا ما شاء الله. لم يمضِ وقت طويل وعادت أمي إلى المنزل رفقة المولودة الجديدة، لأن حالتهما الصحية كانت جيدة.
تلقيت الخبر بعد مرور بضع ساعات من وصولهما إلى المنزل، فرحت كثيرا لأني كنت أنتظر ولادتها على أحر من الجمر كي ترتاح من تعب الحمل.
لبست جلبابي وهرولت رفقه أطفالي نحو منزلنا وكلي شوق لرؤية “الكتكوتة” الصغيرة، دخلت المنزل وتوجهت مباشره لأمي الحبيبة فقبلتها، فرحت هي الأخرى لرؤيتي، ثم حان دور أختي الصغيرة، يممت نحوها وكشفت عنها الغطاء، فإذا هي طفلة جميلة، ثم لاحظت شيئا غريبا لم أستوعبه بداية، استمررت في التحديق فيها فإذا بأمي تقول لي والابتسامة تعلو محياها: “أختك مريضة بمتلازمة داون (Down syndrome) هذا قدر الله والحمد لله”، أعجزتني الصدمة عن الكلام، واحتجت بعض الوقت قبل أن أسألها عمن أخبرها بذلك؟ فأجابتني: “الممرضة التي ولدتني”، سكتت هنيهة ثم أضافت بحزن: “لم تعاملني جيدا يا ابنتي، نعتتني بأوصاف غير لائقة، وفور وضعي لابنتي أخبرتني مباشرة بمرضها، غير آبهة بمشاعري، وكان جوابي لها أن الحمد لله على كل حال”.
استغربت ما حكت لي أمي عن الممرضة التي يفترض فيها مساعدة بنات جنسها والتخفيف عنهن، لكنني لم أستغرب تصرف أمي وحكمتها ورزانتها وإيمانها، فأجبتها وأنا أتظاهر بالقوة كي لا أكسر عزيمتها: “نعم هو كذلك أمي، الحمد لله على كل حال. انظري كم هي جميلة”، وحقا كانت الطفلة جميلة جدا ورقيقة وصغيرة الحجم .
أما أبي فلم يعتبرها أبدا مريضة، ولم يكن يحب أن يسمعنا نتحدث في الموضوع أبدا، والحقيقة أنني لم أدرِ إلى يومنا هذا سبب ذلك؛ أهو محاولة تقبل الأمر أم أنه حقا لم يصدق ذلك ولم يؤمن به؟
وجاء اليوم السابع؛ يوم العقيقة، واخترنا لها اسم “رميساء”، أحببنا هذا الاسم واتفقنا جميعا على تسميتها به.
مرت الأيام واكتشفنا أن رميساء تعاني من عدة أمراض أخرى؛ من بينها مشاكل في التنفس، وكان حجمها لا ينمو بشكل طبيعي، كانت أمي تأخذها مرارا وتكرارا للمستشفى لمعاينتها، وكان الأطباء يصفون لها بعض الأدوية في كل مرة.
كانت أمي الغالية تقضي معظم وقتها مع أختي رميساء؛ ترضعها وتغير لها ملابسها وحفاظاتها.. وكانت رحيمة جدا معها لدرجة أن صديقاتها كن يستغربن منها ومن حذرها الشديد على الطفلة؛ من أن يقترب منها أخي ذو السنتين أو أن يحملها شخص دون علمها، ذلك لأن بنيتها الجسمية كانت ضعيفة، وأي حركة غير مدروسة قد تؤدي إلى حادث لا تحمد عقباه .
أتمت رميساء خمسة أشهر ومع ذلك لم تكن تستطيع أن تتحرك بمفردها أو أن تحاول الجلوس كما يفعل بقية الأطفال، كانت تبتسم كثيرا، وابتسامتها كانت جميلة وبريئة، أحببناها جميعا، وأصبحت بمثابة زهرة مشرقة بالنسبة لنا .
مرت الأيام وحالة أختي رميساء تزداد سوءا، لم تعد تحب أن ترضع من أمي واضطرت لأن تشتري لها الحليب المصنع، ولم تعد تبتسم كما في السابق، شلت حركتها تماما إلا عينيها اللامعتين، كانت تنظر بهما إلى من يقترب منها بملامح جامدة دون أي رد فعل. امتنعت فيما بعد أيضا عن شرب الحليب المصنع، وهنا قرر والداي أن يذهبا بها إلى المستشفى، وحين فحصتها الطبيبة طلبت منهما نقلها إلى مستشفى آخر في مدينة مجاورة، وقبل مغادرتهما نادت على أبي وقالت له بصوت منخفض: “خذ بنصيحتي وعد بابنتك إلى المنزل”، ثم انصرفت وملامح الحزن تظهر على محياها .
خرج والداي من المستشفى وهما يحدقان بأختي رميساء لبعض الوقت، وإذا بأبي يقول لأمي “هيا بنا إلى المنزل”، كأنه اتخذ قراره، فوافقته أمي.
في ذلك اليوم جئت إلى منزل والداي، فإذا بهم قد اجتمعوا في الغرفة مع بعض من أفراد العائلة والأقارب، ألقيت التحية، وتوجهت مباشرة إلى أختي رميساء، كشفت عنها الغطاء، فهالني ما رأيت!
سبحان الله تعالى، رأيت فتاة مختلفة عن أختي الصغيرة الجميلة الرقيقة، رغم أنها مصابة بمتلازمة داون إلا أنها كانت متميزة عن باقي الأطفال المصابين بهذا المرض، كانت شديدة البياض، بخدين زهريين وشفتين ورديتين وعينين لامعتين، أما في تلك اللحظة فقد اختفى كل ذلك، وبدا لونها شاحبا جدا، اختفى لمعان عينيها وبدت كأنها خائفة من شيء، كأنها تريد الجلوس والحركة ولا تستطيع، كانت عينها اليسرى تغمز باستمرار وشفتها السفلى تعوج كلما غمزت، لم أستطع تحمل المنظر وأجهشت بالبكاء، وقلت بصوت منخفض “يا إلهي ما هذا؟!” فإذا بأبي يجيبني: “إنها سكرات الموت يا ابنتي”، تجمدت في مكاني ونظرت لأمي، وإذا بدمعات تنهمر على خديها، توجهت إليها وضممتها فهمست لي “فصبر جميل”، أما أبي فقال: “إن كتب الله لها أن تعيش فذلك ما نحب ونريد، وإن كتب لها أن تموت فإنه سبحانه يفعل ما يشاء ويريد”.
استمر الوضع على هذه الحالة لعدة ساعات، قمت من مكاني وتوجهت إلى رميساء، نظرت إليها ويا ليتني لم أفعل، كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، تراجعت بضع خطوات للوراء من هول اللحظة ورهبتها، كان منظرا تقشعر له الأبدان، وتوجهت داعية الله سبحانه وتعالى.
لاحظ أبي فعلي فاقترب من رميساء وأعيننا جميعا تراقبه، دنا منها كثيرا، وبعد برهة رفع رأسه ثم نطق: “يا الله، لقد ماتت”. بدا كأنه لم يتوقع موتها، كأنه مستغرب ومندهش لموتها، رغم أنه كان يعلم أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، إلا أن صدمة الموت كانت أقوى.
رضينا بقدر الله وقضائه، ولكن هذا لم يمنعنا من البكاء، فقد أحببناها كثيرا، أحببنا رقتها وجمالها وابتسامتها، رأيت صبر أمي ورضاها بعطاء الله وقضائه وقدره، وكيف كافحت وثابرت وضحت من أجل رميساء، أمي الحبيبة الغالية التي أفنت عمرها من أجلنا وسهرت الليالي لراحتنا، ها هي اليوم تقدم عربونا آخر على صبرها وهي تعيش أصعب ما يمكن أن تعيشه أم؛ وفاة فلذة كبدها.
ما زلت أحتفظ بصورة أختي رميساء إلى يومنا هذا، لم أملك الشجاعة الكافية لأريها لأحد، كما لم أستطع أن أحذفها من هاتفي لأنها ذكرى ثمينة. لم ولن أنسى ذلك اليوم أبدا، فهو لحظة فارقة في حياتي.
انتقلت أختي الصغيرة الحبيبة إلى دار الخلود والبقاء، إلى الجنة. قلب صغير نقي صاف وخال من الذنوب والمعاصي، أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجمعنا بها في الجنة.