تقديم
القدوة ليست كلمة عابرة، بل هي ميزان يُهتدى به في ظلمات الحياة، يقول ابن منظور في معجمه “لسان العرب” إنّ القدوة هي الأسوة، وهي ما يُقتدى به ويُتأسى به. وأضاف أن معنى “يأتسي به” هو “يقتدي به ويكون مثله”. وتُعرّف القدوة بأنها نموذج يحتذى به في سلوك أو نجاح.
للقدوة الحسنة أثر عظيم في بناء وصياغة شخصية الرجولة الإيمانية وتنمية قدراتها، وترسيخ المبادئ والقيم الأخلاقية في المجتمع، وتربية الأجيال المستقبلية. ولهذا بعث الله عز وجل الرسل إلى أُممهم لتبليغ دعوته قولاً وعملاً وسلوكا؛ ليرى الخلق الدعوة تتجسد فيهم. فقد حثنا المولى عز وجل قائلا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ[سورة الأنعام، الآية :90].
ورسولنا المصطفى ﷺ جعل الله له النور الهادي، والقدوة الباقية، والميزان الذي به توزن الأعمال وتعرف به السبل. فهو الإمام المقتدى، ومعلم البشرية دروس الصبر والثبات، والهادي إلى طريق العزة والكرامة. ومن دلائل عظمة الرسالة المحمدية أن الله تعالى ربط بين سيرة النبي الكريم ﷺ وبين بيت المقدس ربطا عقديا أبديا، فجعل الإسراء إليه والمعراج منه آية على أن فلسطين ليست أرضا مباركة فحسب، بل هي عهد ووعد، وأمانة في أعناق المؤمنين، وموطن الجهاد والرباط إلى يوم القيامة.
هكذا يلتقي مقام القدوة في شخص الرسول الأعظم ﷺ مع بشارة الوعد الإلهي الذي حمله، لتبقى فلسطين قضية إيمان قبل أن تكون قضية أوطان، ووعدا رباني لا تنقضه السنون ولا تبطله المؤامرات. فمن سار على نهج الحبيب المصطفى ﷺ، استمسك بحبل الله المتين، وأيقن أن وعد الله حق، وأن الغلبة في نهاية المطاف لأهل الحق، مهما طال ليل البغي وتكالب الطغاة.
رسول الله ﷺ قدوتنا
لقد كان نبينا الكريم على الله ﷺ قدوة كاملة في جميع جوانب سيرته، إيمانا وعبادة وخُلقا وسلوكا وتعاملا مع غيره، وفي جميع أحواله.
كانت سيرته مثالية للتطبيق على أرض الواقع، ومؤثرة في النفوس البشرية؛ فقد اجتمعت فيها صفات الكمال وإيحاءات التأثير البشري، واقترن فيها القول بالعمل، ولا ريب أن القدوة العملية أقوى تأثيرا، وحث الله عز وجل الأمة على الاقتداء بهذا النبي الكريم على الله عليه أفضل الصلاة والتسليم قائلا: لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللهَ كَثِيرٗا [سورة الأحزاب، الآية:21].
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله؟ في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الناس بالتأسّي بالنبيِ يوم الأحزاب، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين. 1
فحبيبنا وسيدنا محمد ﷺ هو أفضل الخلق إطلاقا وأعلاهم رتبة عند الله تعالى، وقد خصّه الله سبحانه وتعالى بمزايا عديدة. وقد قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله شيخ المفسرين عند ذكر قصة الإسراء والمعراج…: “فقال له ربه: قد اتخذتك حبيبا وخليلا وهو مكتوب في التوراة: “حبيب الله” وأرسلتك إلى الناس كافَّة بشيرا ونذيرا، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معي…”. 2.
فقرن الله سبحانه وتعالى اسمه باسمه فلا إيمان إلا بـ”لا إله إلا الله محمد رسول الله ﷺ”، وقرن طاعته بطاعته، فلا طاعة لله إلا بطاعة رسول الله ﷺ، وقد قال الله تعالى: مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ[سورة النساء، الآية: 80].
هذا النبي الخاتم العزيز على ربه هو القدوة الخالدة للبشرية. غشِيَتْ أعين لا تستنير بنوره، وخابت وخسرت ذمم فَصَمَتْ ما بينها وبينه! قال الله في حقه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا[سورة الأحزاب، الآية:45].
فالله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، وفلسطين قضيتنا، والقدس قدسنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.
شعار لكل مؤمن يرجو الله واليوم الآخر أن يتخذه في حياته، وفي سلوكه إلى الله، في صف الذاكرين المجاهدين في سبيل الله صفا كأنه بنيان مرصوص، كما كان عليه صحابته الأخيار ومن تبعهم الأبرار حتى نالوا الرضى والرضوان.
هذا مشهد يصور لنا جهاد رسول الله ﷺ وهو يومئذ لا زال بين ظهراني المشركين، يضطهدونه ويصدون الناس عن سبيل الله فيمنعون رسول الله ﷺ عن تبليغ رسالة ربه، مشهد شارك فيه سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو يومئذ شاب يافع، نضعه للتأمل والاعتبار والاقتداء.
روى الإمام أحمد رضي الله عنه عن علي رضي الله عنه، قال: “انْطَلَقْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَيْنَا الْكَعْبَةَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْلِسْ وَصَعِدَ عَلَى مَنْكِبَيَّ، فَذَهَبْتُ لِأَنْهَضَ بِهِ فَرَأَى مِنِّي ضَعْفًا، فَنَزَلَ وَجَلَسَ لِي نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: اصْعَدْ عَلَى مَنْكِبَيَّ، قَالَ: فَصَعِدْتُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، قَالَ: فَنَهَضَ بِي، قَالَ: فَإِنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنِّي لَوْ شِئْتُ لَنِلْتُ أُفُقَ السَّمَاءِ حَتَّى صَعِدْتُ عَلَى الْبَيْتِ وَعَلَيْهِ تِمْثَالُ صُفْرٍ أَوْ نُحَاسٍ، فَجَعَلْتُ أُزَاوِلُهُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ حَتَّى إِذَا اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْذِفْ بِهِ فَقَذَفْتُ بِهِ، فَتَكَسَّرَ كَمَا تَتَكَسَّرُ الْقَوَارِيرُ، ثُمَّ نَزَلْتُ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسْتَبِقُ حَتَّى تَوَارَيْنَا بِالْبُيُوتِ خَشْيَةَ أَنْ يَلْقَانَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ”. 3.
هذا الحديث الشريف يضعنا أمام نموذج جهادي نادر، نرى فيه رسول الله ﷺ حين أقبل على الكعبة وهو يلتمس الوسائل، نعم يلتمس كل الوسائل لكي يكْسِر الأصنام، إنه رسول الله وكفى.
عهدُنا اليوم أشبه ما يكون بذلك العهد الذي كان فيه الإسلام مضطهدا، ما يكاد أحدنا يظهر أو يتكلم أو يخترع… حتى يُنعَت من جميع الجهات، من الجهات الرسمية، ومن الجهات العامِّيَّة أنه كذا وأنه كذا وأنه كذا. وامحمداه!
هذه الصورة نضعها بين يدي حديثنا علَّها تجدد لنا عزمة، علّها تجدد فينا إيمانا وإرادة لكي ننهض، فنكْسِر الأصنام -الأصنام الزائفة- ونقيم دين الله الحق.
فلسطين وعد نبيينا
تنبع أهمية فلسطين من قيمتها الدينية؛ حيث اختارها الله سبحانه وتعالى من بين بقاع الأرض لتكون موطنا لمعظم الأنبياء، ويوجد فيها المسجد الأقصى المبارك، ولقد أُسري بالنبي محمد ﷺ إلى أرض فلسطين، وصلى بالأنبياء جميعا في تلك الأرض المباركة، لذلك فإن من يدرك قيمة فلسطين الدينية يدافع عنها، ويفديها بالغالي والنفيس.
فلسطين قضية مصيرية ومحورية بالنسبة للأمة، بل هي معيار نهضة الأمة أو تخلفها، رمز عزتها أو هوانها، كما أنها أصبحت حاليا بوصلة الإنسانية.
فلسطين قضيتنا، والقدس قدسنا، وغزة عزتنا تعرف اليوم أصعب وأحلك فصول المؤامرة الصهيونية الأمريكية الغربية الحاقدة، وما يقع لها من تنكيل همجي، وتجويع منهجي، وتهجير قسري، وتطهير عرقي، وإبادة جماعية للأطفال والنساء والمسنين.
وما نرى ونسمع من أراض تُضَم، ومنازل تُجْرَف، وشعب يُقهر، أمام أنظار أصحابها العاجزين، وتحت سمع العالم وبصره الذي لم يعد يبالي، وخاصة الصمت الرهيب للحكام العرب وخذلانهم المعيب لإخوة الدم والعقيدة في فلسطين من جهة، ومن جهة أخرى قمع الشعوب والحؤول دون تعبيرها عن مشاعر التنديد والاستنكار ضد تلك الجرائم الهمجية، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وامعتصماه!
لا عجب إذن أن تصفهم سورة المائدة بالأوصاف الحقيرة التالية: لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ ٱللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي ٱلْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَـٰكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ[سورة المائدة، الآية: 78-81].
يرشدنا القرآن المبين ويُحرضنا على الجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوقوف في وجه الظلم والفساد والجور بصيغة الأمر والوجوب كما في قوله تعالىٰ: وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ[سورة آل عمران، الآية: 104]
أمة مجاهدة من بين الأمة العامة التي قال الله فيها: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ[آل عمران: 110].
فلا يستقيم للأمة دين ولا دنيا ولا آخرة إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن ذلك عماد الأمة. فعَد الحق سبحانه الإخلال بهذا الواجب العظيم عصيانا له وعدوانا على خلقه.
هذه الأمة المجاهدة المذكورة في الآية تجلت في رجال مؤمنين مجاهدين، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا. رجال تربوا في ظلال بيوت الله تعالى، في ظلال القرآن والسنة النبوية الشريفة، رجال يعلمون علم اليقين أن حال الأمة لا يمكن تغييره إلا بصلاح الأفراد وإيجاد الرجال، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ[سورة الرعد الآية: 11]. رجال يثبتون على الحق ويدافعون عن الحق ولا يخافون في الله لومة لائم. يقول الله تعالى: قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[سورة المائدة الآية: 23].
فكل هذه الهمجية النازية لم تكسر إرادة هذا الشعب الفلسطيني المقاوم الذي يواجه الاحتلال بصلابة وإيمان راسخ بعدالة قضيته، فما نراه في غزة يؤكد قول الله تعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[سورة آل عمران، الآية: 139].
نموذج صادق في موعود ربه وواثق في موعود رسوله ﷺ، قاهر لأعداء الله وأعدائهم، أخبرنا به رسول الله ﷺ وبشرنا بوجوده، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، لِعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِك”. قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: ”بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ” 4.
من منطلق عقيدتنا التي تملي علينا فرضية وواجب مناصرة إخوة الدين والعقيدة، ودعم كل المستضعفين والمظلومين والمقهورين في الأرض، فنحن أمة الخيرية، على عاتقنا مسؤولية دعم فلسطين؛ أقصاها وقدسها، وأهلها ما استطعنا. فهي منا ونحن منها، تستحق منا العطاء اللامحدود وبذل الجهود لدعمها، تلك قضيتنا التي ليس لها إلا أهلها والعالم الحر الذي يقف بصف الإنسانية وينحاز لها دائما. فالحقوق لا محالة ستعود مهما سُلبت وعصفت بنا جرائم الاحتلال وداعميه.
فالتعبئة من أجلها وبكل الوسائل خلق، والدفاع عنها شرف، والجهاد في سبيلها وسام الأحرار الأبرار وعنوان الإيمان وبرهان الصدق. قال سفيان بن عيينة رحمه الله: “إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور فإن الله يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[سورة العنكبوت، الآية: 69]. 5
لما عاد مهاجرو الحبشة إلى النبي ﷺ سألهم عن أعجب ما رأوه بأرض بالحبشة، فعَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ (الحبشة) قَالَ: “أَلَا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؟”، قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ، تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا، ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا، فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا، فَلَمَّا ارْتَفَعَت الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ (غادر)، إِذَا وَضَعَ الله الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا. قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “صَدَقَتْ صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقَدِّسُ الله أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ” 6
قال السِّندي رحمه الله: (يقدِّس الله) أي: يُطَهِّرهم من الدَّنس والآثام. 7
وقال المناوي رحمه الله: “كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم”، استخبار فيه إنكار وتعجُّب، أي: أخبروني كيف يُطهِّر الله قومًا لا ينصرون العاجز الضَّعيف على الظَّالم القويِّ، مع تمكُّنهم من ذلك؟ أي: لا يطهِّرهم الله أبدًا، فما أعجب حالكم إن ظننتم أنَّكم مع تماديكم في ذلك يُطهِّركم!”. 8
خاتمة
إن من سنن الله عز وجل في هذا الكون أن الحق وإن غُيِّبَ حينا أو ضُيِّق عليه أزمانا، فإن له موعدا مع النصر والتمكين، إذ كتب الله أن تكون العاقبة للمتقين، وأن تكون الغَلَبة لأهل الحق والصبر والثبات، وأن حزب الله هم الغالبون. وإن طال بغيُ اليهود، واشتدَّت سطوتهم، وعَلتْ دولتهم حينا من الدهر، فذلك إنما هو استدراج وابتلاء، حتى تَستبين معادن الرجال، ويَتميَّز الصف، ويُرَبَّى المؤمنون على اليقين بالوعد الحق.
بشر القرآن الكريم وأكدت الأحاديث الصحيحة أن نهاية الباطل محتومة، وأن زوال الظلم واقع، وأن دولة اليهود ستنتهي في أرض فلسطين المباركة، أرض الجهاد والرباط، التي ما فتئت عبر القرون ميدانا لامتحان الأمة وموطنا لاصطفاء الشهداء والصادقين. وسيكون أهل فلسطين –وهم حملة لواء الرباط– سيف الله وسوطه في أرضه، ينتقم بهم من العتاة والجبابرة، ويقيم بهم حجة الحق على العالمين.
هكذا تلتقي سنن الله الكونية مع سننه الشرعية، ليتجلى وعده الحق: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[سورة الحج، الآية: 40]، ويدرك المسلمون أن طريق التحرير ليس شعارا، بل هو صبر وثبات ورباط وجهاد حتى يحق الحق ويزهق الباطل، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا[سورة الإسراء، الآية: 81].
[2] تفسير الإمام الطبري 8/11.
[3] أخرجه أحمد، والنسائي في (السنن الكبرى)، والطبري في (مسند علي) واللفظ له -رحمهم الله جميعا-
[4] أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
[5] تفسير ابن أبي حاتم: تفسير القرطبي.
[6] رواه ابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه رحمهما الله.
[7] حاشية السندي على سنن ابن ماجة.
[8] فيض القدير شرح الجامع الصغير.