المعلوم في الدين أن رمضان شهر الصيام والقيام، شهر العبادة والتهجد، شهر التربية على كبح شهوات النفس ورغباتها… ومن ثم يعتقد الكثير منا ألا علاقة للصيام بالحياة الزوجية اللهم إلا من جهة كونه يستوجب الإمساك عن شهوة الفرج، وتجنب مقدماته من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ وهذا الاعتقاد يسهم – إلى حد كبير – في ركود العلاقة الزوجية إن لم نقل فتورها.
إن هذه الرؤية بعيدة عن الصواب وعن الفهم السديد لديننا؛ فكون رمضان شهر العبادة والتهجد لا يعني التفريط في هذا الميثاق الغليظ أو تهميشه، ولا يفيد التباعد النفسي بين الزوجين، ولا يفيد توقفهما عن العمل بمقتضياته والتزاماته المادية والنفسية إلى حين انقضائه، أو إغفال الحرص على الارتقاء به من علاقة دنيوية زائلة إلى رباط أخروي دائم… بل على العكس من ذلك تماما، فالرجوع إلى جوهر القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يؤكد أن شهر الصيام والقيام، وشهر العبادة والتهجد لا يتنافى مع اعتباره محطة تغذي العلاقة الزوجية وتمتن الأسس التي يقوم عليها بنيانها، بل إن رمضان يضفي على العلاقة الزوجية لمسات روحية عميقة لا تلبث أن تعمق تلك المودة والرحمة التي من الله تعالى بها على الزوجين.
إن العبادة – التي هي عنوان هذا الشهر الكريم وميزته – لها بعد عام وخاص يجدر بالصائم تحريه والحرص على الاجتهاد لتمثله. إن العبادة بمفهومها الواسع والتي هي استحضار قصد التقرب إلى الله تعالى في كل السكنات والحركات، وفي كل الأقوال والأفعال، والسمو بالعادة إلى مرتبة العبادة بتجديد نية ابتغاء نيل مرضاة الخالق سبحانه، تشجع الزوجين – خصوصا في رمضان – على مزيد من إحسان العشرة وحسن التلطف، وجميل الخدمة، والقول الطيب…
وباختصار فإن رمضان بنفحاته الإيمانية المباركة يحض الزوجين على تحري تمام العبودية والعبادة في كل حال وحين، والحرص على تمثلهما في حقل معاملاتهما الزوجية، فتسعى الزوجة إلى مزيد من حسن التبعل لزوجها وابتغائها مرضاته عنها، كما يحرص الزوج على مزيد من حسن العشرة لزوجته، اعتقادا منهما أن ذاك من تمام العبودية والعبادة التي يجب تمثلها دوما، وفي رمضان بشكل أخص، مما يزيد الميثاق الذي يربط بينهما متانة وتماسكا، ويسفر عن مزيد من المودة وحسن المعاشرة بينهما.
قد يقول قائل: إن ما تتحدث عنه من أهمية طلب مرتبة الإحسان في كل الأحوال والأوقات وبالأخص في رمضان وما في ذلك من عظيم النفع بشكل عام في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ومنه على العلاقة بين الزوجين، مطلب عزيز يحتاج إلى كثير من اليقظة والإخلاص وصدق في التوجه وطول دربة وتربية دائمة للنفس قد يمر رمضان ولا يتحقق منها إلا الشيء اليسير، مما يدفعنا إلى الحرص على غنم خيرات رمضان من رحمة ومغفرة وعتق من النار، بالاجتهاد في العبادة بمفهومها الخاص من صيام وقيام وذكر وتهجد ودعاء وقراءة القرآن والإنفاق وطلب العلم الشرعي كما الكوني، إلى غير ذلك من أعمال البر والخير التي يثيب عليها البارئ سبحانه دوما، إلا أنه يضاعف أجرها لمن يقوم بها في رمضان، ومن ثم أهمية الحرص على الاجتهاد في تطبيق هذه العبادات التي يظن الكثير منا أن لا ارتباط لها بالعلاقة الزوجية ولا تأثير لها عليها. وهذا ما يفسر إقبال كل واحد من الزوجين على هذه العبادات – إن كان فاعلا – بشكل منفرد عن الزوج الآخر ظنا منه أن طبيعة هذه العبادات لا تستدعي قيام الزوجين بها معا، فنجد الزوج أو الزوجة قد يبحث عمن يشد أزره ويستعين به للقيام بهذه العبادات دون أن يخطر بباله أن خير معين على طلب وجه الله تعالى بهذه العبادات هو الزوج الآخر، وأن غنم خيرات هذه العبادات يشمل علاقتهما الخاصة فيمتن أساسها ويرسخه، فيثمر مزيدا من المودة والرحمة والعشرة الطيبة.
إن حرص الزوجين على القيام بالعبادات سويا أو على الأقل ببعض منها – خصوصا في رمضان شهر العبادة – من شأنه أن يعطي لهذه العلاقة رسوخا ومتانة وصمودا في الحياة الدنيا، وبعدا مكانيا وزمانيا أكبر مدى مرتبطا بالحياة الأخرى، فيطمئن الزوجان على استمرار ارتباطهما ببعض في دار البقاء بعد زوال واندثار دار الفناء.
أيها الزوجان المؤمنان: ما ظنكم بعلاقة زوجية قطباها يشد بعضه أزر البعض للاستعانة على قيام الليل في سكونه؟ ألا يزيد تقربهما إلى ربهما تقاربا من نوع خاص بينهما؟ ألا تسمو روحهما فتتقوى علاقتهما وتصمد في وجه كل ما قد يعكر صفوها؟
أيها الزوجان المؤمنان: لا داعي للتساؤل عن قوة متانة علاقة بين زوجين يحرصان على تخصيص وقت مشترك بينهما للدعاء والاستغفار، ويتحريان لذلك أوقاتا غالية في حياتنا نفيسة في أوقاتنا، وأعني بذلك وقت السحر حيث ينزل ربنا جل شأنه إلى السماء الدنيا ويقول: “هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ حتى يطلع الفجر” 1. كما أقصد وقت ما قبل آذان المغرب وهما صائمان يعتقدان أن لهما عند الكريم المنان دعوة لا ترد، روى الإمام الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه حديثا طويلا منه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “… ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب -عز وجل-: وعزتي لأنصرنَّكِ ولو بعد حين”. فتلهج ألسنتهما بالدعاء لأنفسهما ولبعضهما البعض… أن يمنحهما ربهما خير الدنيا والآخرة، ويجمع بينهما في خير رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً 2.
أيها الزوجان المؤمنان: لا يخفى أن تخصيص الزوجين وقتا من يومهما وليلتهما لذكر الله تعالى سويا، والصلاة على رسوله الكريم، وحفظ القرآن وتدارسه… فيه من النفع العظيم لهما في الدنيا والآخرة ما يفيض عليهما نعم الطمأنينة والسكينة التي يفتقدها الكثير من الأزواج، وغشيان الرحمة لهما، ناهيك عن رضا الله تعالى عنهما بذكره لهما سبحانه في الملكوت الأعلى، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ 3. ويقول جل وعلا: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 4. وثبت عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده” 5.
طوبى لزوجين فقها أن روح الدين وجوهر العبادة هو حسن الخلق والمعاملة، ومع المقربين أولى، ووعَيَا قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي” 6 فسارعا إلى تمثل مضمونه ومعناه سلوكا عمليا في مملكتهما الزوجية خصوصا في رمضان حيث الأجر مضاعف.
هنيئا لزوجين علما أن شهر رمضان هو شهر الاجتهاد في طلب العبادة والعبودية فحرصا على الاجتهاد في طلبهما سويا، فذلك يفتل في تمتين ميثاقهما الغليظ، ويغدق عليهما ثمارا تسعدهما في الدنيا والآخرة.
يا لسعادة زوجين فهِما أنّ تقربهما إلى الله تعالى بشتى أصناف العبادات صغيرها وكبيرها، عظيمها ودقيقها لا يزيد رابطتهما الزوجية إلا مودة ورحمة، ولا يزيد أساسها إلا رسوخا، كما لا يزيد بنيانها إلا علوا، مما يكفل لهما حياة طيبة في الدنيا وزواجا أبديا في نعيم مقيم في الأخرى حيث: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ 7.
ربنا اجعلنا ممن تقول لهم يوم القيامة: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ 8.