1- فضل قيام الليل
قال الله تعالى: ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا، وقال سبحانه: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون، وقال أيضا: كانوا قليلا من الليل ما يهجعون. وعن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ وأي الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ فقال: “أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم” 1 .
عن عبد الله بن سلام قال: كان أول شيء تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا والناس نيام تدخلون الجنة بسلام. قال أبو عيسى هذا حديث صحيح – الترمذي.
وجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزى به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس”. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: “ثلاثة يحبهم الله، ويضحك إليهم ويستبشر بهم:
1- الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل، فما أن يقتل أو ينصره الله عز وجل
فيقول: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه؟.
2- والذي له امرأة حسنة وفراش لين حسن فيقوم من الليل فيقول: يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد…
3- والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا فقام من السحر في ضراء وسراء.
لقد أشار القرآن إلى حال هؤلاء الأبرار مع ربهم، الحال التي استحقوا عليها هذا الحب والرضوان فقال: يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار. الصابرين والصادقين، والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار.
في هذا التوجه الخالص ما ينم عن حقيقة قلوبهم وتقواهم وإخلاصهم وتجردهم واستحضارهم للآخرة والإنابة إليها، والتجافي عن دار الغرور والعزوف عنها.
يقول صاحب الظلال: (في كل صفة من صفاتهم تتحقق سمة ذات قيمة في حياة الإنسانية:
ففي الصبر ترفع على الألم والاستعلاء على الشكوى، وثبات على تكاليف الدعوة، وأداء لتكاليف الحق، وتسليم لما يريد بهم من الأمر، وقبول لحكمه ورضاه.
وفي الصدق اعتزاز بالحق الذي هو قوام الوجود، وترفع عن الضعف، فما الكذب إلا ضعف عن كلمة الحق، اتقاء لضرر أو اجتلاب لمنفعة.
وفي القنوت لله أداء لحق الألوهية وواجب العبودية، وتحقيق لكرامة النفس بالقنوت لله الواحد الذي لا قنوت لسواه.
وفي الإنفاق تحرر من استذلال المال، وانفلات من ربقة الشح، وإعلاء لحقيقة الأخوة الإنسانية على شهوة اللذة الشخصية، وتكافل بين الناس يليق بعالم يسكنه الناس.
وفي الاستغفار بالأسحار بعد هذا كله يلقي ظلالا رفافة ندية عميقة، ولفظة الأسحار بذاتها ترسم ظلال هذه الفترة من الليل قبيل الفجر، الفترة التي يصفو فيها الجو ويرق ويسكن، وتترقرق فيها خواطر النفس وخوالجها الحبيبة، فإذا انضمت إليها صورة الاستغفار الفت تلك الظلال المنسابة في عالم النفس وفي ضمير الوجود سواء، وتلاقت روح الإنسانية وروح الكون في الاتجاه لبارئ الكون وبارئ الإنسانية)…
أين نحن من هؤلاء الأبرار؟ وهل لواحد منا العذر عند الله في تخلفه عن هذا الركب؟ وأخذه لهذا الزاد؟ إنه للأسف في مقدورنا وفي إمكاننا فلا نحرم أنفسنا منه.
2- رجال في المحراب
ولقد حفظت لنا سيرة أسلافنا صورا كريمة توضح مدى حرصهم على قيام الليل، وعلى إحياء هذه الشعيرة في أشق الظروف وأشدها. ونشير إلى جانب من هذه السيرة العطرة لتكون نبراسا لشبابنا المسلم المتبع والملتزم.
(فبعد أن انتهى الرسول صلى الله عليه وسلم من غزوة ذات الرقاع) نزل المسلمون في مكان يستريحون فيه، واختار الرسول صلى الله عليه وسلم نفرا من الصحابة للحراسة، وكان من بينهم عمار بن ياسر، وعباد بن بشر رضوان الله عليهم جميعا وطلب عباد من عمار أن ينام ويستريح في أول الليل على أن يقوم هو بالحراسة.
وفي ظلام الليل وبين الصخور والصمت وقف عباد يصلي، وانساب القرآن من فمه، وامتلأت جوانحه بالرحيق المختوم، وإذا بشيطان غادر يرميه في الظلام بسهم في عضده فنزعه ومضى في صلاته، ثم رماه بسهم غادر آخر نزعه أيضا واستمر في صلاته ثم ركع وسجد، ومد يده إلى صاحبه يوقظه، وصحا عمار ونظر إلى الدماء تنزف من أخيه ويقول له: هلا أيقظتني أول ما رمي، فرد عليه عباد رضي الله عنه (كنت أقرأ في صلاتي آيات من القرآن فلم أحب أن أقطعها، ولولا حرصي على الثغر الذي أمرت بحفظه لآثرت الموت على قطع الآيات التي كنت أتلوها) (سيرة ابن هشام).
وما أجمل ما وصفهم الله به من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
3- مدرسة الليل
جنة المؤمن في محرابه، والذائق لطعم المناجاة يجد الأنس والقرب في الصلاة، هناك تصفو روحه، وترق مشاعره حين يقبل على مولاه.
وقديما هتف هؤلاء الأبرار وقالوا:هاتني سجــــــــداتي
فهي صفائي وســـروري
وهي شوقي ودنـــــاري
وهي نبراس الطهــــور
ثم دعني في صلاتـــــي
في مناجـــاة القديـــريقول الرافعي رحمه الله: (يا لها حكمة أن فرض الله علينا هذه الصلوات بين ساعات وساعات، لتبقى الروح أبدا إما متصلة أو مهيأة لتتصل، ولن يعجز أضعف الناس أن يملك نفسه، إنه متوجه بعدها إلى ربه، فخاف أمن يقف بين يديه مخطئا أو آثما، ثم هو إذا ملك نفسه إلى هذه الفريضة الأخرى، وإنها بضع ساعات كذلك، فلا يزال من عزيمة النفس وطهارتها في عمر على صيغة واحدة لا يتبدل ولا يتغير)…
وفي سكون الليل وهدوئه تحلو المناجاة، ويكون التذكر والعودة إلى الله، وإنها لمدرسة حقا فيها وحدها يزكو الإيمان، وينشر النور، ويعيش المسلم ملتزما بقول النبي صلى الله عليه وسلم (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، فإن قيام الليل قربة إلى الله عز وجل، وتكفير للذنوب، ومطردة للداء عن الجسد ومنهاة عن الإثم).
ويصور هذا الأمر إقبال فيقول:نائح والليل ساج ســـادل
يهجع النـاس ودمعي هاطل
تصطلي روحي بحزن وألـم
ورد يا قيـوم انسي في الظلمإن التربية على الإخلاص، وقطع الأمل الكاذب في الدنيا، من عطايا مدرسة الليل، وذلك ما يجب علينا أن نركزه ونعمقه في النفوس.فاز من سبح والناس هجـوع
يدفن الرغبة ما بين الضلوع
ويغشاه سكون وخشـــوع
ذاكــر الله والدمــــوع
سوف يغدو ذلك الدمع شموع
لتضيء الدرب يوم الحشــر
سجدة لله عند السحر
عد إلى الله بقلب خاشـــع
وادعه ليلا بطرف دامـــع
يتولاك بعفو واســـع
ويبدل كل تلك السيـــات
حسنات أجرها لن ينفذاكان ليل الأولين يقظة، وصار ليل غيرهم نوما، كان الأولون يتهمون أنفسهم ويبكون على ما فاتهم ويسارعون إلى طاعة ربهم، ويتسابقون إلى رحمة الله يطلبونها. جاء في الحديث: “رحم الله رجلا قام من الليل فصلى ثم أيقظ امرأته فصلت فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت ثم أيقظت زوجها فصلى فإن أبى نضحت في وجهه الماء” 2 .
وفي الحديث: “من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات” 3 .
وفي الحديث: “أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل” 4 .
4- اجتنب هذه المعوقات
من أراد أن ينال هذه المنزلة فعليه أن يأخذ نفسه بهذه الأسباب التي ذكرها الإمام الغزالي والتي تعين المؤمن على قيام الليل ومنها:
1- لا تكثر الأكل فيكثر الشرب فيغلب النوم ويثقل عليك القيام.
2- لا تتعب نفسك بالنهار في الأعمال التي تعيا بها الجوارح، وتضعف بها الأعصاب فإن ذلك أيضا مجلب للنوم.
3- لا تترك القيلولة بالنهار فإنها سنة للاستعانة على قيام الليل.
4- لا ترتكب الأوزار بالنهار فإن ذلك مما يقسي القلب ويحول بينك وبين أسباب الرحمة. قال رجل للحسن: (يا أبا سعيد: إني أبيت معافى وأحب قيام الليل وأعد طهوري فما بالي لا أقوم ؟ فقال: ذنوبك قيدتك).
5- سلامة القلب من الحقد على المسلمين ومن البدع والخروقات ومن هموم الدنيا، فإن هذه الأمراض تصرف عن طاعة الله.
6- خوف يلزم القلب مع الأمل، والتفكر في أهوال يوم القيامة ودركات جهنم، يقول أحد السلف (إن ذكر جهنم طير نوم العابدين) وقال آخر: (إذا ذكرت النار اشتد خوفي وإذا ذكرت الجنة اشتد شوقي).
وقال الفضيل بن عياض: (إذا غربت الشمس فرحت بالظلام لخلوتي بربي، وإذا طلعت حزنت لدخول الناس علي).
7- دوام مراقبة الله تعالى مع الاستعانة به ولزوم بابه سبحانه ذكرا واستجابة لأمره.
8- محبة المؤمنين وصحبتهم…
هذه بعض نفحات قيام الليل: صفاء القلب، وارتفاع فوق الدنيا وهمومها وسعادة للروح، وزاد للمؤمن، وراحة للنفس. وفي الحديث: “إن من الليل ساعة لا يواقعها عبد مسلم يسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه”.