من جديد، أنبهكم منذ البداية أن خيالي واسع جدا جدا، وأنني تعودت قراءة الروايات البوليسية حيث يكون المجرم دوما ذلك الشخص الذي لم يشك به أحد ولم ينتبه إليه أحد.
كثر الحديث هذه الأيام عن سنوات الرصاص وعودة سنوات الرصاص، خاصة بعد حادث اختطاف المسؤولين السبعة من جماعة العدل والإحسان وكشفهم عما تعرضوا له من تعذيب بشع داخل مخافر المخابرات. السؤال الذي تبادر إلى ذهني – خاصة وأنني شخص خياله واسع جدا جدا، تعود قراءة الروايات البوليسية حيث يكون المجرم دوما ذلك الشخص الذي لم يشك به أحد ولم ينتبه إليه أحد- هو لماذا سميت سنوات الرصاص كذلك؟ لماذا لم تسم بسنوات الورود، سنوات الفرح، سنوات الرخاء…؟ لماذا الرصاص بالضبط؟ من سيجيبني عن هذا السؤال يا ترى؟ ليس غيرها: أمي! نعم أمي، لقد تعودت منها أن تجيبني على أكثر الأمور تعقيدا بشكل بسيط وقاصد جدا. أو ليست هي التي أعطتني ذلك الجواب البالغ التعبير، حينما سألتها عن الانتخابات: لماذا سميت ب”التشريعية”؟ فأجابتني بطريقتها البسيطة: “لأنه يعطى فيها الحق للجميع أن يشرع فاه كما يشاء”. وفعلا حينما تأملت الانتخابات التشريعية وجدتها مناسبة لشرع الأفواه بامتياز: أليست مناسبة كثرة الوعود وبناء القصور فوق الرمال وصناعة مستقبل جميل واعد خاصة للمستضعفين من أبناء هذا البلد؟! مهلا! مالنا ومال الانتخابات! أستسمحكم عذرا، إنما هو تيه شخص خياله واسع جدا جدا، تعود قراءة الروايات البوليسية حيث يكون المجرم دوما ذلك الشخص الذي لم يشك به أحد ولم ينتبه إليه أحد.
فعلا توجهت إلى أمي بالسؤال عن سنوات الرصاص، فأجابت كعادتها ودون أي تردد: “أكيد أنها سميت كذلك لأنه كان فيها طرف يطلق الرصاص على طرف آخر”. فعلا، جواب منطقي جدا، لكن من كان يطلق الرصاص على من؟ هنا انتهى علم أمي، فهي لا تعرف أكثر مما قالته لي.
من سيجيبني عن سؤالي الثاني يا ترى؟ آه! تذكرت، ليس غيره جارنا “با حمان”. إنه رجل مسن، كان في عهد الاستعمار من كبار المقاومين حتى أنه أصيب بعاهة مستديمة في رجله اليمنى. وبعد “الاستقلال”، أصبح من كبار السياسيين. لكن لا أدري لماذا أصبح الآن من كبار المدمنين على المخدرات؟ ربما لشدة سروره مما تحقق من إنجازات ومن مستقبل مشرق لهذا البلد بفضل مقاومته ونضاله السياسي؟.
“با حمان” هذا لم يدرس السياسة في جامعات الولايات المتحدة أو في جامعات بريطانيا، ولا يتوفر أصلا على مؤهل علمي عال، لكنه مع ذلك من أكبر المحللين السياسيين، علمته تجربة الحياة ما لا تعلمه الجامعات. هو خير من يكلمك عن تاريخ المغرب ومختلف الدول التي تعاقبت على حكمه، وعن فترة الحماية والاستعمار وعن مختلف الحكومات التي تعاقبت بعد الاستقلال، وعن مختلف الوزراء والأحزاب والنقابات… إنه الشخص الوحيد الذي تقنع أجوبته شخصا مثلي خياله واسع جدا جدا، تعود قراءة الروايات البوليسية حيث يكون المجرم دوما ذلك الشخص الذي لم يشك به أحد ولم ينتبه إليه أحد.
فعلا ذهبت إلى “با حمان”، فوجدته قد تناول لتوه قرصا مخدرا. لم يثنني ذلك عن طرح سؤالي لأنني أعرف أن “با حمان” يفقد وعيه في كل شيء إلا وعيه السياسي. فسألته : “من كان يطلق الرصاص على من خلال سنوات الرصاص؟” فأجابني: “غادي نعاودها ليك أبنتي بحال الخبيرة” (سأحكيها لك كما تحكى الخرافة). “إن النظام المغربي (المخزن) عرف منذ قديم الزمان وسالف العصر والأوان بشديد ممارسته للديمقراطية، لقد كان هو ديمقراطيا حتى قبل أن تكتشف الديمقراطية في اليونان. هل تظنين أن الأنظمة الغربية هي التي اكتشفت الديمقراطية؟ لا هذا غير صحيح، إذا كانوا هم قد توافقوا مع شعوبهم على الديمقراطية، فإن المخزن لا يحتاج أن يتوافق مع أحد، لأن الديمقراطية تجري في عروقه مجرى الدم… لكن يا ابنتي “احنا المغاربة ما مزيانينش وما كاتليقش لينا الديمقراطية” (الديمقراطية لا تصلح للمغاربة). لقد استغلت فئات من الشعب أجواء الديمقراطية، فاستضعفت عناصر المخزن، وألقت بها في الزنازين، وقامت بتعذيبها بأبشع الوسائل في درب مولاي الشريف والدار الحمرا وسجن تازمامرت… أذاقتها مختلف أنواع العذاب: التعذيب بالكهرباء والشيفون والطيارة والاغتصاب…، الإرغام على إمضاء المحاضر وتلفيق التهم والمحاكمات الصورية و…و… (كانت دموع “با حمان” تسيل وهو يحكي معاناة المخزن المسكين). لكن، يستأنف “با حمان”، صورة الشعب ساءت بشكل كبير في المحافل الدولية وضاق المخزن ذرعا بممارسات الشعب اللاإنسانية، فلجأ هذا الأخير إلى أساليب أخرى كي يلمع صورته في الخارج، منها إنشاء مؤسسات صورية لحقوق الإنسان، التطبيل والتزمير المستمر بشعارات الديمقراطية حتى ليكاد يحسبها السامع حقيقة، استمالة البعض وقمع البعض الآخر… الخلاصة يا ابنتي أن كلام الشعب عن العهد الجديد ليس إلا ذرا للرماد في العيون وما رويته لي عن المختطفين السبعة خير دليل…” وختم “با حمان” كلامه والعبرات تخنقه قائلا: “أنا أيضا يا ابنتي ضحية من ضحايا سنوات الرصاص”.
الآن فهمت كل شيء، لقد كان تفسير “با حمان” غاية في الإقناع… لكن مهلا: هل المختطفون السبعة ينتمون إلى الشعب أم إلى المخزن؟ ولماذا قال “با حمان” أنه من ضحايا سنوات الرصاص؟ هل هو من الشعب أم من المخزن؟ لاااااااااااااااااا صراحة ظننت لوهلة أنني قد فهمت، لكنني الآن لم أعد أفهم شيئا. التفت كي أسأل من جديد “با حمان”، لكن وجدته قد غرق في نوم عميق، لا أدري متي يفيق منه…
وبقي السؤال الذي يحيرني: من كان يطلق الرصاص على من؟ هل الشعب هو الذي كان يطلق الرصاص على المخزن؟ أم أن المخزن هو الذي كان يطلق الرصاص على الشعب؟ ربما المخزن يطلق الرصاص على المخزن، لا ربما الشعب يطلق الرصاص على الشعب! يبدو من جديد أن كل الأوراق اختلطت جدا جدا جدا!!!
وأنتم أعزائي القراء، هل عرفتم من كان يطلق الرصاص على من؟ إذا توصلتم إلى الجواب المهم جدا جدا، فالمرجو أن تتصلوا بشخص خياله واسع جدا جدا، تعود قراءة الروايات البوليسية حيث يكون المجرم دوما ذلك الشخص الذي لم يشك به أحد ولم ينتبه إليه أحد!!!
أما أنا فسأمزق أوراق هذه الرواية، راجية أن ألقاكم في رواية أخرى تكون أكثر بوليسية جدا جدا جدا!!!.رواية بوليسية (1)