تمر الأمة الإسلامية والبشرية جمعاء هذه الأيام بظروف صعبة، وحالة مستعصية بسبب انتشار وباء كورونا القاتل..
ولهذا كان لزاما علينا قبل وبعد وأثناء اتخاذ أسباب الوقاية، والالتزام بكل شروط السلامة، أن نعود إلى الله عز وجل ونجدد الولاء له وحده سبحانه.
لذلك ارتأينا أن نسلط الضوء على مفهوم الولاء عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى.
مفهوم الولاء
الولاء لغة معناه: القرب والدنو وما يترتب عنهما من معاني المحبة والنصرة…
أما اصطلاحا فهو معنى قلبي إيماني تعبدي مضمونه: حب ونصرة الله ورسوله ودين الإسلام والمسلمين..
يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “تتضمن كلمة ولي الواردة في القرآن الكريم بصيغ مختلفة معاني الانتساب والقرب والعقيدة والنصرة..” (1).
ويعتبر الولاء لله عز وجل من المفاهيم الإسلامية الأساسية التي غاب مضمونها للأسف عن أغلبية المسلمين في عصرنا الحالي. وذلك راجع لسببين أساسيين هما:
أولا: ردود الفعل النفسية التي يعاني منها بعض المسلمين إزاء ما يقع على العالم الإسلامي من مظالم مختلفة وعلى كل المستويات، وما يشهدوه من تكالب على الصحوة الإسلامية وتشويه لأهلها. يقول الإمام رحمه الله: “حرب مباشرة ضد الصحوة الإسلامية، فرق عسكرية تدرب للتدخل السريع، ودعاية متخصصة تشوه الحركة الإسلامية، وتلفق البهتان لتفسد سمعة الدعاة، وتعمي أخبار المومنين عن الأمة..” (2).
ثانيا: ما أصاب الأمة من بعد عن الله وغفلة وفتن وحب للدنيا والشهوات. حيث اختلطت الأمور وتلوثت الفطرة وكثر المفرطون. يقول الإمام رحمه الله: “حب العاجلة والغفلة عن الله يوشكان أن يصرفا وجه بعض المسلمين المصلين عن الجادة: الولاية في الله والبراء مما يحاد الله..”(3).
لذا كان لزاما على كل الدعاة والمصلحين في خضم هذا العالم الموار الذي نعيش فيه أن يذكروا الأمة بضرورة إخلاص الولاء والوجهة لله عز وجل لا للشرق ولا للغرب. وخصوصا ونحن نرى عجز الجميع أمام هذه الجائحة التي اجتاحت العالم، ووقف الكل أمامها مذهولا مصدوما رغم هذا الكم الهائل من العلوم والأبحاث والاكتشافات.
وقد كان للإمام رحمه الله وقفات رائعة مع هذا المفهوم العظيم عبر العديد من مكتوباته ومؤلفاته. مؤكدا في جلها على أن الضرورة قد أصبحت ملحة كي تخلص الأمة الولاء لله عز وجل حتى تستقيم ويصلح حالها. فيقول رحمه الله: “هذا أوان إحياء الربانية وإخلاص الولاء لله عز وجل والاستمساك بالعروة الوثقى، وإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وإن صلاح هذه الأمة كان بتوحيد الولاء لله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام..”(4).
كما اعتبر رحمه الله هذا الولاء، الذي يستوجب محبة الله سبحانه وتعالى ومحبة رسوله عليه الصلاة والسلام والمومنين، من أهم خطوات استكمال الإيمان. قال رحمه الله: “استكملت الإيمان من ذاقت طعم الإيمان يوم أصبح الله ورسوله أحب إليها مما سواهما، يوم أحبت المومنات لا تحبهن إلا لله، وكرهت ماضي غفلتها كما تكره أن تقذف في النار..” (5).
فلن تقوم إذن للأمة الإسلامية قائمة، ولن يعود لها عزها ومجدها إلا بالرجوع إلى الله جل وعلا، وجعل الولاء له سبحانه مركز إشعاع الكون ولبه. يقول الإمام رحمه الله: “في المجتمع الإسلامي المتجدد لا ولاء يقبل إن لم يكن لبه الولاء لله وحده لا شريك له، وما سوى هذا اللب من إشعاعات وتفرعات إنما يقتبس الحرمة في نفوس المسلمين من انبثاقه وانبعاثه عن اللب..” (6).
هذا اللب هو الذي قامت عليه القومة النبوية في عصر التنزيل، فلابد أن نستلهم منها النموذج والقدوة في عصر التجديد. كما وضح ذلك الإمام رحمه الله بقوله: “في الإسلام نقرأ نموذج القومة النبوية فنرى كيف تحول بالتدريج ولاء المهاجرين والأنصار من العصبية القومية والسيادة والحسب إلى الولاء لله ورسوله وشريعته…” (7).
ورغم أن هذا الولاء من أعمال القلوب، إلا أن له مقتضيات وتجليات، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1 – الولاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم
إن أعظم ولاء ينبثق عن الولاء لله عز وجل هو الولاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم. بل هما أمران متلازمان مصداقا لقوله تعالى: إنما وليكم الله ورسوله (8).
ويتساءل الإمام رحمه الله فيقول: “كيف تكون إذن قيمة النعمة العظمى والوسيلة الأرقى إذا تعلقنا بأذيال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحببناه، حبه أصل من أصول الإيمان، حبه دين، حبه وسيلة لحب الله” (9).
ويقول أيضا: “محمديون نحن بمعنى حب الله ورسوله، محمديون بمعنى الولاء الخالص لبشر منا من أنفسنا يوحى إليه” (10).
2 – الولاء للمومنين ومحبتهم
إن الولاء للمومنين ومحبتهم عبادة من العبادات العظيمة، وهو من صلب العقيدة، فمن كان مومنا بـ”لا إله إلا الله” عالما بمعناها كان محبا لأهلها. يقول المولى عز وجل: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا (11). ويقول أيضا: والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض (12).
إنه إذن عقد عقده الله عز وجل من فوق سبع سماوات.
يقول الإمام: “الولاية قرب وتناصر وصداقة وصحبة، وشيجتها العظمى حب المومنين والمومنات لمولاهم عز وجل، حبا غير مفصول عن حب بعضهم بعضا…” (13).
وعن محبة المومنة للمومنات يقول رحمه الله: “يذكرك ربك أيتها المومنة الكاملة الإيمان، المحبة لأخواتها في الله، محبة مشتقة من حب الله ورسوله، محبة أعطيت عليها براهين نصر دين الله حين خذله الناس، وأعطيت عليها شواهد الثبات حين تخاذل الناس، وأعطيت عليها حجج البذل في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله، واحتضان أخواتك في الله في السراء والضراء…” (14).
3 – الولاء للأمة الإسلامية
من مقتضيات الولاء لله ولرسوله الولاء للأمة، لا الولاء للمصالح الخاصة على حساب وحدتها. وفي هذا يقول الإمام رحمه الله: “من واجب التربية أن تبث شعور الانتماء للأمة الواحدة، ينبغي لها أن تربط بين الولاء لله الواحد وبين الولاية للأمة الواحدة، كما يقول الله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة)” (15). ويقول أيضا: “متى نتحرر وإياكم من الولاء للمصالح الخاصة لنعطي ولاءنا لله، ولمصلحة أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعزة دين الله، ولانتصار شريعة الله” (16).
4 – الولاء للمشروع الإسلامي
يقول الإمام رحمه الله: “مطلوب إلى كل طبقات الأمة أن تحول ولاءها إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإلى المشروع الإسلامي الذي يعرضه جند الله” (17).
فباجتماع جند الله على مشروع إسلامي جهادي يحصل الاندماج الجماعي الذي يؤسس لقوة تقود الأمة نحو التغيير المنشود. وهو ما أكد عليه الإمام رحمه الله فقال: “والاندماج الجماعي مشروط بالولاء لله ولرسوله، بطاعة الله ورسوله، بالولاء في الله بين المومنين، بالتحام الجسد الواحد المتناصر، فمن هذا الإندماح المعنوي الإيماني تنبثق القوة العملية الصامدة” (18).
5 – اكتساب الهوية الإحسانية
يعتبر الإمام رحمه الله اكتساب هذه الهوية من أهم مقتضيات الولاء لله سبحانه فيقول: “إن معركة تحويل الولاء من أصنام الجاهلية إلى الله ورسوله معركة فاصلة، وإن اكتساب الهوية الإحسانية الإيمانية الربانية هو الضمانة الوحيدة ليكون الله عز وجل معنا…” (19).
ويقول أيضا: “هذه الأعمال الإيمانية المكملة لشعب الإيمان المتكاملة معها هي مراسيم الولاء لله عز وجل والطاعة له..” (20).
6 – الوقوف عند شرع الله في الأمر والنهي
من أهم مقتضيات الولاء لله عز وجل الوقوف عند شرعه في الأمر والنهي حتى تكون حياتنا فعلا وصدقا كلها لله. لذا ينبه الإمام رحمه الله قائلا: “الولاء لله ليس آية تتلى وصلوات منعزلة في المساجد ورسوما على التلفزيون… بل اتجاه عملي لتكون آيات الله شرعا يحكم كل الحياة..” (21).
ويقول أيضا: “من الناس من يزعم أن السلوك إلى الله عن طريق الحب أمر إرادي يتحقق بدون اعتبار الأمر والنهي الوارد بهما الشرع، ويتحدثون عن المحبة والدنو والقرب والعشق والهيام وسائر هذه المصطلحات، ثم تجدهم عند الأمر والنهي متلكئين متهاونين، هؤلاء عابثون مستهزئون، لم يحققوا شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمد رسول الله” (22).
7 – غرس الولاء لله ورسوله في نفوس الناشئة
الولاء لله عز وجل عقيدة يجب أن يمررها جيل إلى جيل، وهنا يأتي دور الوالدين بصفة عامة والأم بصفة خاصة. يقول الإمام رحمه الله: “إن نوعية الصلة في الأسرة بين الوالدين والمولودين، وصدق التوجيه، وحنان المشفقة والمشفق على البنات والبنين ينبغي أن تعكس روح الولاء لله رب العالمين، والبراء من أعداء الله المارقين… ما لهذه الأجيال المُضَيَّعة لا تكاد تميز بين الحق و الباطل، بين الشرك والإيمان؟ انقطع حبل فصِليه، وتلوثت بيئة فطهِّريها” (23).
وبعد الوالدين يأتي دور المدرسة من خلال رجال ونساء التعليم. يقول الإمام رحمه الله موجها كلامه للمؤمنة العاملة في قطاع التعليم “وانقلي روح الولاء والبراء إلى موطن تكميل التربية، إلى المدرسة لتكون الصلة بين المعلمات والتلميذات، وبين الأستاذات والطالبات صلة تآمر بالمعروف وتناه عن المنكر وتواص بالصبر” (24).
خاتمة
إن الولاء لله عز وجل ليس نظرية تدرس وتحفظ في الذهن مجردة عن العمل، بل هي عقيدة عمل وجهاد ودعوة، تحفظ المؤمن وتحميه من الانحراف عن دينه وشريعته، وتثبته على محبة ربه فيفوز في الدنيا والآخرة.
يقول الإمام رحمه الله: “محبة الله عز وجل الصادقة ببراهينها، الموفية لشروطها من جانب العبد، الفائضة من العزيز الحميد نزلا مباركا، جنة في الدنيا معجلة لأحباب الله” (25).
اللهم لا تحرمنا.
(1) عبد السلام ياسين، جماعة المسلمين ورابطتها، ص 50.
(2) نفس المصدر السابق، ص 18.
(3) عبد السلام ياسين، الشورى والديمقراطية، ص327.
(4) عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 2، ص 949.
(5) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج 2، ص 5.
(6) عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ص 153.
(7) عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 2، ص 509.
(8) سورة المائدة، الآية 55.
(9) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج 2، ص 11.
(10) عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ص 174.
(11) سورة المائدة، الآية 55.
(12) سورة التوبة، الآية 71.
(13) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات ج 2 ص 25.
(14) نفس المصدر السابق ص 28.
(15) عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص417.
(16) عبد السلام ياسين، الشورى والديمقراطية، ص 345.
(17) عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 2، ص 508.
(18) عبد السلام ياسين، الشورى والديمقراطية، ص 198.
(19) عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 2، ص 449.
(20) نفس المصدر السابق، ص 519.
(21) عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 154.
(22) عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 1، ص 174.
(23) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج 2، ص 272.
(24) نفس المصدر السابق.
(25) عبد السلام ياسين، الإحسان، ج1، ص 175.