من أحب الٱيات القرآنية الكريمة إلى قلوب عباد الله، تلك التي تعدهم بالمغفرة والثواب والرحمة، ومن بينها قوله تعالى في سورة النور الٱية 22: وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوٓاْۖ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَّغْفِرَ اَ۬للَّهُ لَكُمْۖ، ذلك أنها جمعت العفو والصفح والمحبة والمغفرة، وذلك غاية منى عباد الله الصالحين، جعلنا الله معهم وبصحبتهم.
ما جمع الله بين العفو والصفح في ٱيات قرٱنه الكريم إلا في ثلاثة مواضع، هذه الآية، والثانية في قوله تعالى في سورة البقرة الٱية 108: فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّيٰ يَاتِيَ اَ۬للَّهُ بِأَمْرِهِۦٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَلَيٰ كُلِّ شَےْءٖ قَدِيرٞۖ، جاءت هذه في حق أهل الكتاب، وسابقتها نزلت بين المسلمين عندما عزم سيدنا أبو بكر الصديق على قطع عطائه لمسطح بن أثاثة بعد حادثة الإفك والافتراء على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أما الثالثة ففي سورة التغابن الٱية 14: يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنَ اَزْوَٰجِكُمْ وَأَوْلَٰدِكُمْ عَدُوّاٗ لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْۖ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اَ۬للَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌۖ وقد وردت بشأن الأسرة والزوج والأولاد.
العفو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، بينما الصفح هو مسح أثره من القلب. والحق عز وجل يأمر عباده بالتجاوز عن كل ما قد يلحقهم من زلات أو اعتداءات الآخرين، سواء كان هذا الآخر فردا من الأسرة أو قريبا من الأقارب أو أحد المواطنين الذين يساكنون المسلمين من غير ملة الإسلام، وأكثر من ذلك مطلوب إليهم أن لا يحملوا في قلوبهم غلا أو حقدا على أحد جراء سلوك أو معاملة سيئة صدرت منه.
العفو والصفح عن المسيء إلى المرء لا يقتصر على شخص دون شخص، وإنما يشمل كل الخلق، وتلك نعمة منّ بها الله تعالى على المسلمين حتى يكونوا خافضي الجناح لغيرهم، سليمي القلب، هينين لينين يألفون ويؤلفون كما جاء في الحديث النبوي الشريف.
العفو عند المقدرة كانت من الخصال الشائعة عند العرب قبل الإسلام، وهي من شيم المروءة وعلامات سعة الصدر وعظم قدر الشخص، وهو ما جاءت دعوة رسولنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لتأكيده وتزكيته وتمتينه في النفوس والقلوب. لكن الشريعة الإسلامية أضافت إليه عملا قلبيا خالصا هو صفاء السريرة ونقاء الباطن، بحيث تم قرنه بالصفح المتمثل في ألا يذهب المرء نفسه حسرات وأحقادا اتجاه أصحاب الزلات والعثرات. ويسع هذا الصفح كل الخلق ليشمل ابتداء الأقارب من الأهل والأسرة، ثم الأباعد من عامة المسلمين ومساكنيهم من أهل الذمة وغير المسلمين.
يشتد الألم والغضب عندما تأتي الإساءة من قريب، ويزداد المرء غيظا وحنقا عندما تكون هذه الإساءة من قريب ضعيف فقير كان ممن تصلهم صدقات وعطاءات المؤمن، كما هو الحال في قصة سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولذلك جاء الأمر الإلهي بزيادة الصفح فضلا عن العفو، وذلك كله طمعا في مغفرة الله ورضوانه.
يقول الشهيد سيد قطب معلقا على هذه الآية/القصة: “تجيء الدعوة إلى الصفح والمغفرة بين بعض المؤمنين وبعض، كما يرجون غفران الله لما يرتكبونه من أخطاء وذنوب.
وَلَا يَاتَلِ أُوْلُواْ اُ۬لْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُّوتُوٓاْ أُوْلِے اِ۬لْقُرْب۪يٰ وَالْمَسَٰكِينَ وَالْمُهَٰجِرِينَ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِۖ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوٓاْۖ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَّغْفِرَ اَ۬للَّهُ لَكُمْۖ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٌۖ (النور، 22).
نزلت في أبي بكر رضي الله عنه بعد نزول القرآن ببراءة الصديقة. وقد عرف أنه مسطح بن أثاثة كان ممن خاضوا فيه – وهو قريبه – وهو من فقراء المهاجرين. وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه. فآلى على نفسه لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا.
نزلت هذه الآية تذكر أبا بكر، وتذكر المؤمنين، بأنهم هم يخطئون ثم يحبون من الله أن يغفر لهم. فليأخذوا أنفسهم – بعضهم مع بعض – بهذا الذي يحبونه، ولا يحلفوا أن يمنعوا البر عن مستحقيه، إن كانوا قد أخطأوا وأساءوا.
وهنا نطلع على أفق عال من آفاق النفوس الزكية، التي تطهرت بنور الله. أفق يشرق في نفس أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أبي بكر الذي مسه حديث الإفك في أعماق قلبه، والذي احتمل مرارة الاتهام لبيته وعرضه، فما يكاد يسمع دعوة ربه إلى العفو؛ وما يكاد يلمس وجدانه ذلك السؤال الموحي: (ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟) حتى يرتفع على الآلام، ويرتفع على مشاعر الإنسان، ويرتفع على منطق البيئة، وحتى تشف روحه وترف وتشرق بنور الله، فإذا هو يلبي داعي الله في طمأنينة وصدق يقول: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، ويعيد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، ويحلف: والله لا أنزعها منه أبدا. ذلك في مقابل ما حلف: والله لا أنفعه بنافعة أبدا.
بذلك يمسح الله على آلام ذلك القلب الكبير، ويغسله من أوضار المعركة، ليبقى أبدا نظيفا طاهرا زكيا مشرقا بالنور”.