إن الشباب هم عماد المجتمع وأساس نهضته، وهم الطاقة المتجددة التي تدفع عجلة تطوره وازدهاره، فهذه المرحلة تتميز بحب الاستكشاف، والقدرة على النقد والاقتراح، إضافة إلى القوة والحيوية التي تمكنهم من تحمل مسؤوليات كبرى.
1- رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنايته بالشباب
أولى الإسلام هذه المرحلة اهتماما كبيرا وعناية خاصة، فذكر الله عز وجل في القرآن الكريم نماذج عديدة لشباب مسلم كان الإيمان محور حياته، لبيان فضل هذه المرحلة ولفت الأنظار إليها، فنجد قصة فتية الكهف الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى، وفي قصتهم مثال الاعتزاز بالدين واليقين بالله والتوكل عليه. ونجد قصة النبي يوسف عليه السلام وما يمثله من قدوة للشباب المسلم في العفة والطهر.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير العناية بالشباب ودائم الحرص عليهم، فهم كانوا أكثر المستجيبين لدعوته، مناصرين له حين خذله شيوخ قريش وكبارها؛ فنجد أوائل المسلمين أغلبهم فتيانا وشبابا، حيث كان علي كرم الله وجهه ثاني من أسلم ولم يتعد عمره العاشرة، وكان أبو بكر رضي الله عنه وزيد بن حارثة في الثلاثينيات من عمرهما وهما من الأربعة الأوائل دخولا في الإسلام.
وقد تضمنت الأحاديث النبوية عديد المواطن التي ذكر فيها الشباب، فتارة يحث النبي صلى الله عليه وسلم على استثمار هذه المرحلة بشدة فيقول: “اغتنم خمسا قبل خمس”.. ويذكر ضمن الخمسة: “شبابك قبل هرمك”. وتارة يبين جزاء الشاب الناشئ في طاعة الله ومكانته عند الله عز وجل بأنه يختصه بظله ضمن سبعة أصناف يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله.
وبالعودة إلى تاريخ أمتنا الإسلامية، تتجلى عظمة صحابة رسول الله الشباب الذين حملوا لواء الدعوة، ونصروا الإسلام وسطروا ملاحم وبطولات خالدة لتروى، ولعل من أبرز هؤلاء؛ الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، نموذج الشاب المسلم القوي المتفاني في خدمة دينه، والقائد الفذ صاحب الشخصية المسؤولة. فمن هو سعد بن أبي وقاص؟ وما هي أبرز مناقبه وإنجازاته؟ وكيف أثر شبابه في بناء شخصيته؟
ولد سعد بن أبي وقاص، أو سعد بن مالك بن أهيب القرشي الزهري، في مكة في السنة الثالثة والعشرين قبل الهجرة، علم من أعلام هذه الأمة وأحد أكثر الشخصيات تبجيلا عند أهل السنة والجماعة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم جملة من الأحاديث وكان أحد كتاب الوحي بمكة، اختصه النبي صلى الله عليه وسلم ضمن العشرة المبشرين بالجنة، وكان ضمن الصحابة الستة الذين توفي صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم، واختاره أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مع هؤلاء ليكون أمر المسلمين شورى بينهم بعد أن طعنه العلج أبو لؤلؤة، بل ويبدو من كلمات عمر الأخيرة أنه لو كان مختارا أحدا لخلافته لاختار لها سعد، فقد قال لأصحابه وهو يوصيهم ويودعهم: إن وليها سعد فذاك، وإن وليها غيره فليستعن بسعد.
وقد أورد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله هذا الموقف في حديثه عن انتقاض عرى الإسلام، وعن السيف وحكمه، فذكر سعد بن أبي وقاص واختيار الخليفة عمر له لسابقته وغنائه، باعتباره نموذجا ناصعا من الرجال الذين اكتملت فيهم صفات أهل الشورى، ومسلما مؤمنا لا يرضى بغير الله ربا ولا يطيع غيره عز وجل ولا يرضى بحكم السيف. 1 ونال سعد هذه المكانة واكتسب هذا الغناء بعد عمر مديد مليء بالمناقب والبطولات، كان لشبابه الحظ الوافر منها، جمع فيه بين الإيمان القوي والعقيدة الصلبة الراسخة، والشجاعة الفذة المنقطعة النظير، نستعرض أبرزها فيما يلي:
2- إسلامه وموقف أمه
أسلم سعد وهو شاب لم يتجاوز السابعة عشرة، وكان من السابقين الأولين الذي اعتنقوا الإسلام بعد أبي بكر وعلي وزيد بن حارثة، وإنه يتحدث عن إسلامه فيقول: “رأيت في المنام قبل أن أسلم كأني في ظلمة لا أبصر شيئا، إذ أضاء لي قمر فاتبعته، فكأني أنظر إلى من سبقني إلى ذلك القمر، فأنظر إلى زيد بن حارثة، وإلى علي بن أبي طالب، وإلى أبي بكر وكأني أسألهم: متى انتهيتم هاهنا، قالوا: الساعة، وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام مستخفيا، فلقيته في شعب أجياد وقد صلى العصر فأسلمت، فما تقدمني أحد إلا هم.” 2
وسمعت أم سعد بإسلامه، وكانت نصرانية، فثارت ثائرتها وغضبت غضبا شديدا، وأرادت ثنيه عن الإسلام، وكان سعد من أبر الناس بوالدته حتى كان يضرب به المثل في بر الوالدين فيقال “أبر من سعد” بغرض التشبيه والمفاضلة، فاستغلت أمه هذه الصفة لإرجاعه للكفر ولجأت لوسيلة لم تشك بأنها ستهزم روح سعد، يرويها هذا الأخير قائلا: “كنت رجلا برا بأمي، فلما أسلمت قالت: يا سعد، ما هذا الدين الذي أحدثت؟ لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت وتعير بي، وقالت أيضا: زعمت أن الله أوصاك بوالديك، وأنا أمك وآمرك بهذا، فقلت: لا تفعلي يا أماه، فإني لا أدع ديني لأي شيء”. فمكثت على ذلك أياما حتى هزل جسمها وخارت قواها، ولما رآها سعد على هذه الحال قال لها قولته المأثورة: “تعلمين يا أمه، لو كانت لك مئة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء، فكلي إن شئت أو لا تأكلي”، فلما رأت أمه منه الجد أذعنت فأكلت وشربت. فنزل الوحي محييا موقف سعد ومؤيدا له، بقول الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ. سورة العنكبوت الآية 8.
بهذا الموقف القوي، أثبت سعد الشاب صلابة إيمانه وولاءه لله ورسوله على حساب أقرب الناس إليه، فرغم بره وحبه الشديد لوالدته، إلا أنه خلد نموذجا يحتذى به في الثبات على الحق وترتيب الأولويات وفق ميزان الشريعة.
3- شجاعته وبلاؤه في المعارك والغزوات
كان سعد رضي الله عنه من أشجع فرسان العرب ومن أمهر رماتها، فمنذ طفولته كان فتى يحمل في نفسه أسمى أمارات البطولة والحكمة ورجاحة العقل، فكان منصرفا عن عبادة أصنام قريش، منهمكا أغلب الأوقات في بري السهام وصنعها، والتدرب على رميها، معدا نفسه لدور عظيم في ظلال الإسلام لم يكن يعلم حينها حدوده وأهدافه.
شهد سعد مع النبي كل المعارك والغزوات فلم يتخلف عن واحدة، وأبلى فيها بلاء عظيما وقدم دروسا في التضحية والفداء والثبات في أوقات المحن والشدائد. وانفرد بميزة شريفة تقدم بها عن كل المسلمين، فكان أول من رمى بسهم في سبيل الله، وأول من رمي أيضا، وذلك في سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منطقة بالحجاز تدعى رابغ لاعتراض عير لقريش، فانكفأ المشركون على المسلمين، فحماهم سعد بسهامه يومئذ، فأنشد في ذلك قائلا:
ألا هل أتى رسول الله أني … حميت صحابتي بصدور نبلي
فما يعتد رام في عدو … بسهم يا رسول الله قبلي
وجاءت غزوة بدر الكبرى، ويستهل سعد بطولته قبل بداية المعركة وعمره آنذاك لم يتجاوز الخامسة والعشرين، حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم مع علي والزبير مع نفر من أصحابه في كتيبة استطلاعية إلى ماء بدر ليأتوا بأخبار عن جيش قريش، فرجعوا بغلامين كانا يستقيان لهم، فعرف منهما النبي مكان جيشهم وعددهم وأسماء أشراف قريش فيهم، فأقبل على أصحابه قائلا: “هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها”.
وقاتل سعد في هذه المعركة قتالا شديدا حتى قال عنه عبد الله بن مسعود: “لقد رأيت سعدا يقاتل يوم بدر قتال الفارس في الرجال” 3، وقتل سعد المشرك سعيد بن العاص وأخذ سيفه، وروي أنه أسر أسيرين في هذه الغزوة.
أما في غزوة أحد، وحين انقلبت الكفة للمشركين، وتفرق المسلمون عن رسول الله، لم يبق معه سوى اثنين هما طلحة وسعد، ووقف هذا الأخير مستميتا في الدفاع عنه صلى الله عليه وسلم حين استفرد به وكسرت رباعيته وشج رأسه. ولما كان سعد راميا فائق البراعة، نشر كنانته وأخذ يطلق على المشركين لا يرمي منهم أحدا بسهم إلا أصابه به حتى تعجب النبي من مهارته ودقته، فأخذ يناوله سهامه وسهام أصحابه قائلا له: “ارم سعد، فداك أبي وأمي”، فأخذ يذوذ عن النبي حتى فرق عنه الأعداء. ونال سعد هذا الشرف النبوي العظيم، وخصه بهذه المزية دون غيره من الصحابة، وذلك في لغة العرب غاية الإعجاز والتكريم والتشجيع، فقال علي كرم الله وجهه: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يفدي أحدا بأبويه إلا سعد. ففي وقت الضيق والشدة هذا، ظهر غناء سعد رضي الله عنه وبطولته وفداؤه، حتى روي أنه أطلق ألف سهم على المشركين يوم أحد.
بعد موقف سعد في أحد، زاد حب النبي له وعظمت مكانته عنده، فأصبح يفاخر به أصحابه قائلا: “هذا خالي، فليرني امرؤ خاله”، رغم أن النبي يكبره بأكثر من عشرين سنة. فسعد من الخؤولة العلية، فهو من بني زهرة، وجده أهيب هو عم السيدة آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن مواقفه الشجاعة والمشهودة ما ترويه أمنا عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرق ذات ليلة ولم يستطع النوم، فقال: “يا ليت رجلا من أصحابي يحرسني الليلة”، قالت فسمعنا صوت السلاح، فقال رسول الله: من هذا؟ فإذا به سعد، قال: “أنا يا رسول الله جئت أحرسك”. قالت: “فنام النبي حتى سمعت غطيطه”. 4
كل هذه المواقف البطولية لسعد، تبرز دور الشباب المسلم في رفع راية الإسلام، والثبات على الحق واليقين بالله، فعارضته أمه بموقفها فثبت وهو ابن السابعة عشرة، وخاض غزوتي بدر وأحد وأبلى فيهما البلاء العظيم وهو في العشرينيات من عمره، فرغم صغره إلا أن عمره لم يمنعه من تحمل أكبر المسؤوليات، وتسخير شبابه وقوته في خدمة دينه وتخليد إنجازات ومواقف عظيمة في ذاكرة الأمة.
وبما أن البطل في شبابه وصغره هو البطل في رجولته، كان سعد مثالا للقائد المسلم الناجح ذي الشخصية الحكيمة والقوة العسكرية، فحين احتار أمير المؤمنين عمر فيمن يتولى إمرة جيش المسلمين في واحدة من أعظم المعارك الإسلامية، صاح عبد الرحمن بن عوف قائلا: “لقد وجدته.. الأسد في براثنه، سعد بن مالك الزهري”، وعرف بعدها بين أصحابه بهذا اللقب. فخاض المسلمون معركة القادسية ضد الفرس بقيادة سعد، وكانت معركة فاصلة في تاريخ الإسلام، لقوة الفرس وعددهم وعتادهم حينئذ، مدججين بأحدث وأخطر ما عرفته الأرض من أسلحة، وبقيادة أذكى عقول الحرب وقتها وأدهى دهاتها. فوقف سعد في جيشه خطيبا واثقا، واستهل حديثه بالآية الكريمة: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، ثم صلى بهم الظهر وكبر أربعا، وأشار بيده إلى جنود العدو. فتهاوت جنود الفرس كالذباب المترنح وقتل قائدهم رستم وخيرة جنوده، وانتصر المسلمون بقيادة سعد انتصارا مشهودا كان بداية لسلسلة انتصارات عظيمة حققوها في معاركهم ضد الفرس. فقد تابع سعد بعد هذه المعركة زحفه إلى المدائن -وهي عاصمة الفرس- حيث تجمعت كل فلول وبقايا الجيش الفارسي متأهبين لموقف أخير حاسم وفاصل، وعبر بهم نهر دجلة في موسم فيضانه بعبقرية ونجاح باهرين حتى وصلوا المدائن وفتحوها، وصلى بالمسلمين في إيوان كسرى صلاة الفتح شكرا لله على توفيقه وتأييده. وخضعت العراق بعد ذلك خضوعا تاما لدولة الخلافة الراشدة، حتى انتهت سلسلة المعارك ضد الفرس بسقوط دولتهم تماما في معركة النهاوند “فتح الفتوح”. وولي سعد بعد ذلك إمارة العراق، فبنى مدينة الكوفة، وأرسى قواعد الإسلام في هذه البلاد العريضة الواسعة.
4- تقواه وورعه
كان سعد من أتقى الصحابة وأكثرهم زهدا في الدنيا، وكان إذا سمع النبي يخطب ويعظهم تفيض عيناه من الدمع تأثرا وخشية حتى تبتل ثيابه. وكان حسن التعامل طيب الخلق حتى أوتي نعمة القبول بين الناس.
وكانت هذه الصفات الجليلة التي اجتمعت في سعد سببا لنيله البشارة النبوية بالجنة، فذات يوم والنبي جالس بين أصحابه، رنا بصره في الأفق في إصغاء، ثم نظر إلى أصحابه قائلا: “يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة”، فاشرأبت أعناق الصحابة إلى الباب لمعرفة هذا السعيد المحظوظ المبشر بالجنة، فطلع سعد بعد حين يسير، فسأله أحد الصحابة عن أعماله وسبب نيله هذه المثوبة العظيمة أجاب قائلا: “لا شيء أكثر مما نعمل جميعا ونعبد، غير أني لا أحمل لأحد من المسلمين ضغنا ولا سوءا”. 5
وكان سعد مجاب الدعاء، فكان هذا سلاحا فتاكا له بجانب سلاح رميه، ويرجع أصحابه ذلك إلى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له يوم أحد: “اللهم سدد رميته.. واستجب دعوته”، فكانت دعوته كالسيف القاطع لا تخطئ وجهتها.
ويروي في هذا الصدد أحد الصحابة أن سعدا ذات مرة رأى رجلا يسب عليا وطلحة والزبير، فنهاه فلم ينته، فقال سعد: إذا أدعو عليك، فرد الرجل: أراك تتهددني كأنك نبي. فانصرف سعد فتوضأ وصلى ركعتين، ورفع كفيه إلى السماء قائلا: “اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سب أقواما سبقت لهم منك الحسنى، وأنه قد أسخطك سبه إياهم، فاجعله آية وعبرة”. فلم يمض وقت حتى خرجت بين الناس ناقة لا يردها شيء، حتى اقتحمت الرجل وأخذت تتخبطه بقوائمها حتى مات.
وكما كان سعد أستاذا في البطولة والفداء، كان أستاذا في العطاء والسخاء، فكان من أجود المسلمين وأكرمهم، ذا مال وفير وإنفاق كثير في سبيل الله، حتى أن النبي في حجة الوداع زاره وهو مريض، فسأله سعد: “يا رسول الله، إني ذو مال كثير، ولا يرثني إلا ابنة، فهل أتصدق بثلثي مالي؟ قال النبي: لا، قال: فبنصفه؟ قال النبي لا، قال فبثلثه؟ قال النبي: نعم، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. فكان بذلك موافقة وإقرارا للنبي بجواز الوصية بثلث المال عند المرض. “
ونشبت الفتنة الكبرى بين المسلمين إثر مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه، فاعتزلها سعد ولم يحضر أي معركة، بل وأمر أهله بأن لا ينقلوا إليه شيئا من أخبارها، فكان من الصحابة الذين أحنوا الرأس أمام الفتنة حتى تمر وتجتمع الأمة على إمام.
ولما سأله ابنه عن سبب عدم قيامه ومشاركته للقتال أجاب قائلا: “أي بني، أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأسا، لا والله حتى أعطى سيفا إذا ضربت به مسلما نبا عنه، وإن ضربت به كافرا قتله، وإني سمعت رسول الله يقول: إن الله يحب العبد الغني الخفي التقي”. وحين انتهى الأمر لمعاوية واستقرت مقاليد الحكم بيده، سأل سعدا عن سبب عدم قتاله قال: “ما كنت لأقاتل رجلا -يعني عليا- قال له النبي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي”.
5- وفاته
في العام الرابع والخمسين للهجرة جاوز سعد سن الثمانين من عمره، وبدأ بالتهيؤ للرحيل ولقاء الله عز وجل. وعلى نفس منوال حياته العظيمة، كان مشهد وفاته مهيبا يبرز ثقته بالله وصلابة إيمانه، فيروي ابنه لحظاته الأخيرة فيقول: “كان رأس أبي عند حجري وهو يقضي، فبكيت، فقال لي: ما يبكيك يا بني؟ إن الله لا يعذبني أبدا، وإني من أهل الجنة”. فلم توهنه حتى رهبة الموت وزلزاله، وكان مطمئنا مستعدا للقاء الله الذي لن يخيبه. وأوصى بتواضع تام، أن يكفن في جبة بالية من صوف، قاتل بها المشركين يوم بدر وخبأها ليلقى الله عز وجل بها. وكان آخر المهاجرين وفاة.
في الختام، نرى كيف كان للشاب الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – دور محوري في تشكيل شخصيته ومناقبه. فقد أسلم في سن مبكرة، وبرزت شجاعته وإخلاصه وثباته في ميادين الجهاد، ما جعله مثالا يحتذى به للشباب المسلم، المعول عليه في بناء مستقبل الأمة. وفي هذا الصدد يشير الإمام عبد السلام ياسين – رحمه الله إلى أهمية تربية الشباب تربية إيمانية جهادية، قائلا: “إننا بحاجة لبناء أمة، والشباب يكونون في مجتمعاتنا المفتونة جيشًا من العاطلين الذين أسيء تعليمهم وتربيتهم. فإذا حصلوا بين أيدينا قبل قيام الدولة وبعده يجب أن نعدهم إعدادًا جادًا ليكونوا جند التحرير والبناء.” 6
خاتمة
ومن خلال دراسة حياة الصحابي سعد، ندرك كيف يمكن للشباب، إذا تسلحوا بالإيمان والعلم والحكمة، أن يسهموا بفعالية في نهضة الأمة وتحقيق أهدافها. وهذا ما أكده الإمام ياسين بقوله: “فـي الشباب خير كثير، نرجو من كرم الملك الوهاب أن يقيض في الجيل الحاضر طليعة تتلقـى الربانية من أهل الربانية، وتتلقى العلم من أهل العلم، والحكمة من أهل الحكمة، والهمة الجهادية من أهل الهمة، حتـى تكون رسول الأجيال النيـّـرة من سلفنا الصالح”. 7 لذا، فإن الاستثمار في تربية الشباب وتوجيههم نحو القيم الإسلامية النبيلة، كما جسدها سعد بن أبي وقاص، يعد ضرورة ملحة لبناء مستقبل مشرق للأمة الإسلامية.
[2] عز الدين ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج2 ص 455.
[3] ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج3 ص141.
[4] عبد الحق الإشبيلي، الجمع بين الصحيحين، ج3 ص552.
[5] خالد محمد خالد، رجال حول الرسول، ص87.
[6] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص65.
[7] عبد السلام ياسين، سنة الله، ص 260.