من هدي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل جوهر دعوته المنيفة ولبها، التذكير باليوم الآخر وبلقاء الله سبحانه، والحض على التفكر الدائم في الجسر المفضي إلى دار الخلود: الموت. كان ذلك دأبه عليه الصلاة والسلام في الجماعات والجمع والأعياد، يقرأ على الصحب الكرام -عليهم من الله الرضى والرضوان- آيات المصير، ويرفع الهمم لحث المسير.
ففي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: “لقد كان تنُّورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين -أو سنة وبعض سنة- وما أخذت ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس”.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقدٍ الليثي رحمه الله ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بـق والقرآن المجيد واقتربت الساعة وانشق القمر. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـق والقرآن المجيد وكانت صلاته بعد تخفيفا.
و”ق” و”اقتربت الساعة” كلاهما ذكر للموت وللدار الآخرة وتشويق لـجنات ونهر عند مليك مقتدر.
فالعبرة الكبرى من العيد التذكُّر والتذكير بالعيد الأعظم لقاء الرب الكريم الرحمن الرحيم.
وصم يومك الأدنى لعلك في غد ** تفوز بعيد الفطر والناس صُوَّمُ
وحي على السوق الذي فيه يلتقي الْــ ** ـمحبون ذاك السوق للقوم
يُعلَمُ يرون به الرحمن -جل جلاله- ** كرؤية بدر التمِّ لا يُتوهَّمُ
فقلوب إلى ربها منتهى اشتياقها لا تجد في ذكر الموت هاذم لذاتها إلا طمأنينة ورَوْحا لأرواحها، إنه بحق كما قال إمام العارفين صلى الله عليه وسلم: “تحفة المؤمن الموت”.
ونترككم إخوتنا وأخواتنا مع علم من أفراد هذه الأمة ممن أحسن وأجاد في ترقيق القلوب بالتذكير بالمعاد الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله وأحسن إليه.
بيان السبب في طول الأمل وعلاجه
اعلم أن طول الأمل له سببان: أحدهما الجهل، والآخر حبّ الدنيا؛ أما حبّ الدنيا فهو أنه إذا أَنِسَ بها وبشهواتها ولذّاتها وعلائقها ثَقُلَ على قلبه مفارقتُها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، وكلّ من كره شيئا دفعه عن نفسه.
والإنسان مشغوف بالأماني الباطلة، فيُمَنِّي نفسه أبدا بما يوافق مراده، وإنما يوافق مراده البقاء في الدنيا فلا يزال يتوهَّمُه ويقدره في نفسه ويقدر توابع البقاء وما يحتاج إليه من مال وأهل ودار وأصدقاء ودواب وسائر أسباب الدنيا، فيصير قلبه عاكفا على هذا الفكر موقوفا عليه، فَيَلْهُو عن ذكر الموت فلا يقدر قربه، فإنْ خَطَرَ له في بعض الأحوال أَمْرُ الموت والحاجة إلى الاستعداد له سَوَّفَ ووعد نفسه وقال: الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثمّ تتوب، وإذا كَبِرَ فيقول: إلى أن تصير شيخا، فإذا صار شيخا قال: إلى أن تفرغ من بناء هذه الدار، وعمارة هذه الضيعة، أو ترجع من هذه السَّفْرَة، أو تفرغ من تدبير هذا الولد وجَهَازه وتدبير مسكن له، أو تفرغ من قهر هذا العدو الذي يشمت بك، فلا يزال يُسَوِّفُ ويؤخّر، ولا يخوض في شغل إلا ويتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال أُخَر، وهكذا على التدريج يؤخّر يوما بعد يوم، ويُفْضي به شغل إلى شغل بل إلى أشغال إلى أن تختطفه المَنِيَّةُ في وقت لا يحتسبه، فتطول عند ذلك حسرتُه، وأكثر أهل النار وصياحهم من “سَوْفَ”، يقولون: واحزناه من سوف! والمُسَوِّفُ المسكين لا يدري أنَّ الذي يدعوه إلى التسويف اليوم هو معه غدا، وإنما يزداد بطول المدة قوّة ورسوخا، ويظن أنه يتصوّر أن يكون للخائض في الدنيا والحافظ لها فراغ قط وهيهات، فما يفرغ منها إلا من طرحها، فما قضى أحد منها لُبَانَتَه ، وما انتهى أَرَبٌ إلاّ إلى أَرَب.
وأصلُ هذه الأماني كلِّها حبُّ الدنيا والأُنسُ بها، والغفلةُ عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “أَحْبِبْ من أحْبَبْتَ فإنك مفارِقُه” 1.
وأما الجهل، فهو أن الإنسان قد يُعَوِّلُ على شبابه فيستبعد قرب الموت مع الشباب، وليس يتفكر المسكين أن مشايخ بلده لو عُدُّوا لكانوا أقل من عشر رجال البلد، وإنما قَلُّوا لأن الموت في الشباب أكثر، فإلى أن يموت شيخ يموت ألف صبي وشابّ.
وقد يستبعد الموت لصحته، ويستبعد الموت فجأة ولا يدري أنّ ذلك غير بعيد، وإن كان ذلك بعيدا فالمرض فجأة غيرُ بعيد، وكل مرض فإنما يقع فجأة، وإذا مرض لم يكن الموت بعيدا. ولو تفكَّر هذا الغافل وعلم أن الموت ليس له وقت مخصوص من شباب وشِيب وكهولة، ومن صيف وشتاء وخريف وربيع، ومن ليل ونهار لعَظُمَ استشعارُه واشتغل بالاستعداد له، ولكنّ الجهلَ بهذه الأمور وحبَّ الدنيا دَعَوَاه إلى طول الأمل وإلى الغفلة عن تقدير الموت القريب، فهو أبدا يظن أن الموت يكون بين يديه ولا يقدِّر نزولَه به ووقوعَه فيه. وهو أبدا يظنّ أنه يُشَيِّعُ الجنائز ولا يقدر أن تُشَيَّعَ جنَازَتُه، لأنّ هذا قد تكرر عليه وأَلِفَه وهو مشاهدةُ موت غيره، فأمّا موت نفسه فلم يألفْه ولم يتصوّر أن يألفَه فإنه لم يقع، وإذا وقع في دفعة أخرى بعد هذه فهو الأول وهو الآخر، وسبيله أن يقيس نفسه بغيره ويعلم أنه لابد وأن تُحْمَل جنَازَتُه ويدفن في قبره، ولعل اللّبن الذي يُغَطَّى به لحدُه قد ضُرِبَ وفُرِغَ منه وهو لا يدري، فتسويفه جهل محض.
وإذا عرفت أن سببه الجهل وحب الدنيا فعلاجه دفعُ سببه.
أما الجهل فيُدْفَع بالفكر الصافي من القلب الحاضر، وبسماع الحكمة البالغة من القلوب الطاهرة.
وأما حب الدنيا فالعلاج في إخراجه من القلب شديد، وهو الدّاءُ العُضَال الذي أعيا الأولين والآخرين علاجُه، ولا علاج له إلا الإيمان باليوم الآخر وبما فيه من عظيم العقاب وجزيل الثواب، ومهما حصل له اليقين بذلك ارتحل عن قلبه حبّ الدنيا، فإن حبّ الخطير هو الذي يمحو عن القلب حب الحقير، فإذا رأى حقارة الدنيا ونفاسة الآخرة اسْتَنْكَفَ أن يلتفت إلى الدنيا كلّها وإن أُعْطِيَ مُلْكَ الأرض من المشرق إلى المغرب، وكيف وليس عنده من الدنيا إلا قدر يسير مكدّر منغّص؟ فكيف يفرح بها أو يترسخ في القلب حبّها مع الإيمان بالآخرة؟ فنسأل الله تعالى أن يُرِيَنَا الدنيا كما أراها الصالحين من عباده.
ولا علاج في تقدير الموت في القلب مثل النظر إلى من مات من الأقران والأشكال، وأنهم كيف جاءهم الموت في وقت لم يحتسبوا. أما من كان مستعدا فقد فاز فوزا عظيما، وأما من كان مغرورا بطول الأمل فقد خسر خسرانا مبينا.
فلينظر الإنسان كل ساعة في أطرافه وأعضائه، وليتدبّر أنها كيف تأكلها الديدان لا محالة، وكيف تتفتت عظامها، وليتفكَّر أن الدود يبدأ بِحَدَقَته اليمنى أولا أو اليسرى، فما على بدنه شيء إلا وهو طُعْمَة الدّود، وما له من نفسه إلا العلم والعمل الخالص لوجه الله تعالى.
وكذلك يتفكّر في عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، ومن الحشر والنشر، وأهوال القيامة، وقرع النداء يوم العرض الأكبر. فأمثال هذه الأفكار هي التي تجدد ذكر الموت على قلبه، وتدعوه إلى الاستعداد له.