تحل اليوم، 29 غشت 2016، الذكرى الخمسون لاستشهاد أحد أعلام الأمة الإسلامية في العصر الحديث: سيد قطب رحمه الله.
ففي مثل هذا اليوم من سنة 1966م نفذ طاغية مصر إذاك، جمال عبد الناصر، حكم الإعدام شنقا في الرجل الذي أبى أن يخضع لغير الله، وفضل أن يقدم روحه على مذبح الشهادة بدل تمريغها في أوحال الاستبداد التي تلوث الروح وتسوّد الوجه وتخسف بالكرامة وتهوي بالعبيد أسفل سافلين.
الموقف الرجولي
لم يطق الطاغية أن يكون من بين أفراد الشعب من يرفع رأسه عاليا في وجه الاستبداد، ويعبئ الناس لمجابهة الاستعباد، ولا يرضى بغير الله حاكما وبغير القرآن دستورا، فأصدر أمره بالحكم على صاحب المعالم والظلال بالإعدام، خارقا استقلالية القضاء “الشامخ”، وصم آذانه عن سماع مناشدات العلماء والزعماء والفضلاء والهيئات الحقوقية المنادية بتطبيق القانون الذي يلغي حكم الإعدام في من بلغ الستين.
وغاظ الطاغيةَ ألا يحني القطبُ هامته أمام سلطانه، وهاله أن يكون في الناس من لا يخيفه السجن ولا تفزعه السياط ولا يثنيه التعذيب الوحشي ولا يرهبه القتل، فعمل على إغرائه بالسراح نظير كلمة يكتبها يستجدي بها عفوه، غير أنه وجد في جوف الرجل الذي أنحله السجن والتعذيب جبلا راسيا لا تهزه الرياح والعواصف، فكان الجواب الحاسم:
إن أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفا واحدا يقر به حكم الطاغية).
كان الرجل مؤمنا حق الإيمان بما دبجت يداه، واعيا بما كان يتحمله من أمانة الكلمة أمام الله وأمام التاريخ، بل كان يسعى جاهدا إلى إحياء كلماته ولو بدفق دمائه. ولهذا قال كلمته الشهيرة:
إن كلماتنا ستبقى ميتةً لا حراك فيها هامدةً أعراساً من الشموع، فإذا متنا من أجلها انتفضت وعاشت بين الأحياء. كل كلمة قد عاشت كانت قد اقتاتت قلب إنسان حي فعاشت بين الأحياء…).
البيان الناصع
كان لبيان شهيد القرآن الأثر الكبير في انتشار مكتوباته، وفي “استدراج” فئات عريضة من الشباب إلى ظلال القرآن. بيان تميز بالوضوح في الأفكار، وبالقوة في الطرح، وبالعذوبة في الأسلوب، وبالصدق في الروح التي هيمنت عليه. أضف إلى هذا التجديد في تدبر الآيات القرآنية بما لم يُعهد في المفسرين من قبل، حتى إن كثيرين لا يدخلون الظلال في قائمة التفاسير كما انتهت إلينا أشكالها وطرائقها.
يقول رحمه الله في تفسير الآية الثانية من سورة فاطر؛ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده، وهو العزيز الحكيم:
“وما من نعمة – يمسك الله معها رحمته – حتى تنقلب هي بذاتها نقمة. وما من محنة – تحفها رحمة الله – حتى تكون هي بذاتها نعمة.. ينام الإنسان على الشوك – مع رحمة الله – فإذا هو مهاد. وينام على الحرير – وقد أمسكت عنه – فإذا هو شوك القتاد. ويعالج أعسر الأمور – برحمة الله – فإذا هي هوادة ويسر. ويعالج أيسر الأمور – وقد تخلت رحمة الله – فإذا هي مشقة وعسر. ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام. ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار!
ولا ضيق مع رحمة الله. إنما الضيق في إمساكها دون سواه. لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن، أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك. ولا وسعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم، وفي مراتع الرخاء. فمن داخل النفس برحمة الله تتفجر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة. ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة!
هذا الباب وحده يفتح وتغلق جميع الأبواب، وتوصد جميع النوافذ، وتسد جميع المسالك.. فلا عليك. فهو الفرج والفسحة واليسر والرخاء.. وهذا الباب وحده يغلق وتفتح جميع الأبواب والنوافذ والمسالك فما هو بنافع. وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء!
هذا الفيض يفتح، ثم يضيق الرزق. ويضيق السكن. ويضيق العيش، وتخشن الحياة، ويشوك المضجع.. فلا عليك. فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة. وهذا الفيض يمسك. ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء. فلا جدوى. وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء!
المال والولد، والصحة والقوة، والجاه والسلطان.. تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أمسكت عنها رحمة الله. فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان.
يبسط الله الرزق – مع رحمته – فإذا هو متاع طيب ورخاء؛ وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة. ويمسك رحمته، فإذا هو مثار قلق وخوف، وإذا هو مثار حسد وبغض، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار.
ويمنح الله الذرية – مع رحمته – فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله. ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء، وسهر بالليل وتعب بالنهار!
ويهب الله الصحة والقوة – مع رحمته – فإذا هي نعمة وحياة طيبة، والتذاذ بالحياة. ويمسك نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله على الصحيح القوي، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح، ويدخر السوء ليوم الحساب!
ويعطي الله السلطان والجاه – مع رحمته – فإذا هي أداة إصلاح، ومصدر أمن، ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر. ويمسك الله رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على فوتهما، ومصدر طغيان وبغي بهما، ومثار حقد وموجدة على صاحبهما لا يقر له معهما قرار، ولا يستمتع بجاه ولا سلطان، ويدخر [ص: 2923] بهما للآخرة رصيدا ضخما من النار!
والعلم الغزير. والعمر الطويل. والمقام الطيب. كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال.. مع الإمساك ومع الإرسال.. وقليل من المعرفة يثمر وينفع، وقليل من العمر يبارك الله فيه. وزهيد من المتاع يجعل الله فيه السعادة…”.
لقي القطب ربه في ذلك اليوم الأغر، ولم تمض على استشهاده ذاك إلا بضعة شهور حتى مني قاتله الطاغية السفاح بالخزي والعار في حرب الأيام الستة في يونيو 1967م، والتي فضحت بطولته الجوفاء وكشفت حقيقة نظامه المستقوي ببطشه على المستضعفين المتخاذل بذله أمام الأعداء.
رحم الله شهيد القرآن، وأثابه بما اجتهد وبذل وجاهد لتكون كلمة الله هي العليا.