تناول الأستاذ محمد العربي أبو حزم في الحلقة السابقة من سيرة الإمام المجدد السياق التاريخي الذي ولد فيه رحمه الله، وتناول أصلَه ونسبَه، وأشار إلى ما لحق أجداده من ظلم لم يسلم منه والده.
ويتناول، في هذه الحلقة من برنامجه على قناة بصائر الالكترونية، المحطة الأولى في مساره الدراسي الأول فيقول:
نشأ الطفل عبد السلام مع والديه الأُمّـيَّيْن في القلة والحرمان المادي الذي كان عموم المغاربة يكابدون بسببه مرارة الحاجة وشظف العيش وكثرة الأمراض، خاصة مع الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة ألف وتسعمائة وتسع وعشرين، وتداعياتها على بلاد استنزفها جشع الاحتلال الفرنسي، لتعويض خسائره في هذه الأزمة.
وفي بيئة مراكشية حضرية-بدوية نشأ الطفل عبد السلام، وبعث به والده وهو في الرابعة أو الخامسة من عمره إلى كُتَّاب تحفيظ القرآن، بمدرسة العلامة محمد المختار السوسي، التي كانت بمثابة عش يدرج فيه الصغار، تحت إشراف تلامذته الذين كانوا يحفظون الصبية القرآن الكريم، ويلقنونهم مبادئ اللغة العربية، وبعضا من دروس التاريخ والأدب والحساب وغيرها من العلوم.
عانى الطفل عبد السلام في هذه المرحلة المبكرة من عمره أمراضا متعددة، كان أخطرَها وأشدَّها عليه مرضُ “التيفويد”، الذي يصيب صاحبه بالحمى الطويلة والرعشة وفقدان الشهية والإسهال والسعال، ما يَفْسُد معه المزاج ويُشوَّش منه الذهن، ويمنع من الاِنتظام في حضور دروس الكُتَّاب.
وعلى الرغم من كل هذا امتاز عبد السلام بنبوغ كبير، حسب ما أكده رفيق دربه علي سقراط، حيث كان التلاميذ يكتبون الألواح فيظلون يجدون لحفظ ما كتبوه، أما هو فكان يستظهر حصته ويكون من السابقين. وكان الفقيه يُلزمهم أن يحفظوا في منازلهم كل مساء عشرة أبيات من ألفية ابن مالك، ويلزم عبد السلام بحفظ عشرين بيتا منها، فيأتي وقد حفظها عن ظهر قلب.
وكان الصبية يحضرون مرة بعد مرة، حفلة كان يعقدها السوسي مع تلامذته في بعض منتزهات مراكش قرب مسجد “الْكُتُبِيَّة”، حيث كانوا يتناشدون الأشعار التـي نشرها السوسي فيما بعد في ديوان “الرَّمِيلِيَّات”. وبهذا حظي الطفل عبد السلام بهذه الحظوة، تحت إشراف أحد أعلام الأمة في التربية والفقه والتفسير والحديث واللغة والتاريخ والأدب، والذي كان إلى هذا كله رجلا وطنيا في طليعة المواجهين للاحتلال الفرنس.
في مدرسة العلامة السوسي حفظ القرآن الكريم وهو بعد طفل، وفي ظلها تغذت قريحته بلغة عربية قوية وسليمة، وعذُب لسانه فقرض الشعر وهو ابن اثني عشر عاما، وحصل مجموعا جيدا من مختلف المعارف، وفي حضنها تربى ومن كان معه من الناشئة على إقامة الصلاة في وقتها وعلى الأخلاق الفاضلة التي حقنت شرايينهم بالمنعة اللازمة لحفظهم من أدواء الحياة. ولهذا ظل يذكر فضل هذه المدرسة، وفضل صاحبها العلامة محمد المختار السوسي.
كيف سيشبع الفتى عبد السلام نهمه إلى التحصيل الدراسي بعد مغادرة مدرسة السوسي؟
وأين سيحط رحاله هذه المرة؟
وهل ينجح في المحطة الدراسية الجديدة كما نجح في سابقتها؟
في الحلقة القابلة إن شاء الله نجيب عن هذه الأسئلة.