بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين
مخاض وتخبط يعقبه الفرج والخلاص
الحلقة الثالثة
وقعت “الفتنة الكبرى” هكذا كانوا يسمونها، وتشتت الشبيبة الإسلامية ما بين سجين معتقل أو هارب فار، وبين طليق يكتم انتماءه وهو باق على موالاته لمؤسس الشبيبة وأميرها، أو خارجٍ عن إمرة أميرها، وعلى رأسهم الشيخ إبراهيم كمال وباقي الستة من القيادة الذين حذوا حذوه. وطائفة ثالثة قالوا نحن لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، نتريث ونتبين من أمرنا حتى يظهر لنا الحق جليا فيما طرأ بين القيادة من خلاف، فسموا “جماعة التبين” واتخذوا لهم أميرا وروابط اتصال. ولبث شتات من الإخوان ملتئمين في أسرهم الدعوية في أحيائهم ومناطقهم حيارى من أمرهم. ومن هؤلاء، وكما قرأنا في الحلقة السابقة مجموعة من الشباب، من أبرزهم عبد الجبار عبد الهادي وإبراهيم بلال، اتفقوا أن لا يوقفوا نشاط أسرتهم الدعوية ويستمروا في البحث عن قيادة حددوا لها شروطا. ونتابع في حلقتنا هذه الاستماع إلى شاهد من أهل تلك الأسرة يحكي لنا عن بصيص أمل لم يكن متوقعا، بدأ يتجلى لهم ويتضح وهم في عز حيرتهم وغامر تخبطهم.
– الأستاذ عبد السلام ياسين يزور مدينة الدار البيضاء
يقول عبد الجبار عبد الهادي في شهادته 1:
وجاء الفرج ولاحت البشرى وبرقت بارقتها! كيف ذلك؟
زار الدار البيضاء السي عبد السلام ياسين مع السي محمد بشيري والسي أحمد الملاخ، فوفقني الله لحضور ذلك المجلس؛ وكانت نيته رحمه الله أن يوحد صف الحركات الإسلامية، فكان يقول “جئتكم لحاما ولم آتكم متزعما” أو نحو هذا، وكان يتلو قوله تعالى: “(وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) 2. فكتب الله لي -عن طريق السي عثمان منار الذي دعاني- وحضرت لقاءين، لقاءً يوم الإثنين ولقاءً يوم الخميس من أيام يونيو سنة 1980. اللقاء الأول انفض دون أي شيء. واللقاء الثاني، لست أدري كيف وفقني الله وألهمني سبحانه، حتى ذهبت عنده بكل تواضع وقلت: السي عبد السلام أريد أن أتعرف عليك؟ فقال لي: مرحبا وأعطاني العنوان.
– سفر لمراكش لتعميق التعرف على الأستاذ عبد السلام ياسين
ولما عدت إلى الأسرة التي يشرف عليها السي عبد العزيز الهاشمي حفظه الله، أخبرتهم عن اللقاء، -ولم يكونوا حضروا المجلس الذي ذكرت آنفا- وعقبت بقولي: “أيها الإخوان: سبق أن وضعنا شروط الانضمام، ولقد وجدت رجلا تتوفر فيه هذه الشروط فمن منكم مع الانضمام إليه ومن ضد ذلك؛ ومن يريد وقتا ليفكر قبل اتخاذ القرار؟
فلم يوافقني الرأي والقرار إلا الأخوان بلال وعبد الإله النايت. كانا الوحيدين اللذين وافقا على أن نذهب لزيارة الرجل في مراكش. فذهبت بصحبتهما وقضينا يومين عند السي عبد السلام في مراكش نتناقش حول الدعوة، نسائله: “لماذا تريدها جهرية ألسّي عبد السلام، وهي لا بد أن تكون سرية؟ لماذا تمكن العدو من معرفة تخطيطنا وتنظيمنا”؟ … وما إلى ذلك من أسئلتنا وقناعاتنا التي أُشْرِبناها في جمعية الشبيبة الإسلامية.
يومان والسي عبد السلام يستمع ويستمع، بصبر وأناة وتريث وتؤدة، لم نر منه تأففا ولا ضجرا، ولا تعنتا ولا بطرا، حتى أفرغنا ما في وفاضنا وعرضنا عليه كل مطامحنا وجل مخاوفنا، فجمع كل ذلك وأعطانا جِمَاعَه وزُبدته، وأقنعنا بأن لا بد للعمل الدعوي أن يكون جهرة ولا بد أن يعرف الناس من نحن وماذا نريد.
وما أن أقفلنا راجعين حتى سألت أخي بلالا: “ما رأيك في هذا الأمر وفي هذا اللقاء؟” فأشرق وجهه، ورأيته فرِحاً فَرَحاً شديدا وحدق في وجهي وهو يقول: “لقد وجدت ضالتي وجدت ضالتي وجدت ضالتي” هكذا كررها ثلاثا، فقلنا إذن! بسم الله نتوكل على الله.
وكررنا -أنا والسي بلال- زيارات كثيرة للسي عبد السلام، لما انتقل من مراكش إلى بيته بسلا الذي يسمى الآن الدار العامرة.
– التحاق بلال الفعلي بالمشروع الدعوي للأستاذ ياسين وتكوين أول أسرة بالدار البيضاء
ويتابع عبد الجبار شهادته قائلا:
“التحقنا للعمل الدعوي مع السي عبد السلام وأعطانا برنامجا تربويا وقال لنا (بلال وأنا): “لتجربته، اخرجوا من الدار البيضاء”. وفعلا خرجنا ونحن ستة إخوان، خرجنا إلى شاطئ إمسوان بنواحي الصويرة. حاولنا أن ننفذ البرنامج، وكان برنامجا تربويا بسيطا جدا إذا ما قارناه مع برامج الرباطات والاعتكافات المعمول بها بعد تلك الفترة. لقد كان في المتناول. فالسي عبد السلام كان رجلا مربيا “تيعرف ما يدير” (عليما بما يفعل).
بنينا خيمة على الشاطئ في إمسوان. وسبحان الله! الأمر كان صعبا، فاختلفنا، كان البعض يريد أن يخلد للراحة والبعض يريد الاجتهاد وامتثال منصوص البرنامج. ومع ذلك عملنا عملا جيدا، إذ كان بالمنطقة بالقرب منا مسجد، فقلنا: “من يبلغ الدعوة؟” فبعثنا السي إبراهيم بلال وهو يتقن الشلحة جيدا، فصعد المنبر وتكلم مع الناس ولقي إقبالا. الحمد لله تركنا هذه البادرة هناك.
“بعدها عدنا أنا والسي بلال إلى السي عبد السلام، وأعطيناه تقريرا شفويا فقال: ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ 3وأعطانا ظرفا مختوما وسألنا إن كنا نعرف الأخ السي بشيري فأجبته: “نعم أعرفه، لقد التقيته عندما كان معك في زيارتك للبيضاء”. وفور عودتنا للبيضاء ذهبنا عند السي بشيري 4. ففرح بنا كثيرا رحمه الله وسلمنا له الظرف، وبعد فتحه قال: “هذا السي عبد السلام يطلب إلينا أن نتوكل على الله ونبدأ العمل في مدينة الدار البيضاء”. وسألنا: كم معكما من الإخوة؟ فقلنا له: تقريبا خمسة أو ستة.
وهكذا شكلت أول أسرة بالمدينة كان نقيبها السي بشيري وكان معنا من أعضائها السي عبد العزيز واقف والسي مصطفى فخير والسي شعيب الدقاق والسي عبد الإله أبو اليتيم. كانت هذه أول أسرة في مدينة الدار البيضاء”.
ما حكاه لنا مدققا مفصلا أخونا عبد الجبار يجمله الأخ أحمد أبو الصواب 5 في شهادته حول صاحب هذه الترجمة فيقول: “في بداية سنة إحدى وثمانين من القرن الماضي، بدأ المشروع الدعوي للأستاذ عبد السلام ياسين في الظهور بعد أن شرع في نشر منهاج العمل التربوي الدعوي السياسي على صفحات مجلة الجماعة التي كان يديرها. والتقى بلال بالأستاذ عبد السلام ياسين وكان من المتحفزين لهذا الأمر، فكان أن التقى، مع إخوان له، بالمرشد رحمه الله في بيته بمراكش، وقرر معهم، بعد مجالسة الأستاذ ومناقشته مشروعَهُ الدعوي، الانخراط فيه والانتماء إليه”.
شاهد ثالث يوثق هذا الأمر، وقد ورد اسمه فوقه في شهادة السي عبد الجبار، إنه الأخ السي حسن إزرال يقول حفظه الله 6: ” بعد أن وصل سمعه أن ثمة رجلا من أهل الله اسمه سيدي عبد السلام ياسين (رحمه الله رحمة واسعة)، انطلق يبحث عن حقيقة الرجل ويستقصي أخباره. وزاره مرارا مع مجموعة من الإخوان منهم الأخ عبد الجبار عبد الهادي، والذي كنت ألتقي به (أي ببلال) عنده. فكان ذلك الوجه الباسم الباش الذي لا ترى قسماته إلا وهي مستبشرة مبشرة” 7.
في الحلقة الموالية: بلال يلتحق بالمشروع الدعوي للأستاذ عبد السلام ياسين
[2] سورة الروم 30 – 32.
[3] الكهف آية 64.
[4] كان د. محمد بشيري ضمن التشكيلة الأولى لمجلس الإرشاد للجماعة، وقدم استقالته من الجماعة سنة 1996 وتوفي رحمه الله سنة 1998.
[5] في شهادته على الأخ بلال سجلها في شهر أبريل 2020 المنصرم.
[6] في شهادته على الأخ بلال سجلها هو كذلك في شهر أبريل 2020.
[7] ذ. حسن إزرال كان وثلة من إخوان الشبيبة بعد انسحابهم منها قد التحقوا بالزاوية القادرية البوتشيشية بمداغ. وكان منشغلا بإقناعهم بالالتحاق بمشروع الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله. وقد كان يتردد على زيارته سواء بمدينة مراكش أو بمدينة سلا بعد انتقاله إليها. ولم يرد أن يلتحق بمفرده، وإنما كان مطمحه في إقناعهم بما عزم عليه. وقد أفلح بالفعل في ذلك، فالتحقوا جميعهم.