شبكات الاختراق المدني في ضوء تقرير راند 2007م (2/3)

Cover Image for شبكات الاختراق المدني في ضوء تقرير راند 2007م (2/3)
نشر بتاريخ

ديناميات الاختراق في الوطن العربي والإسلامي

على نفس المنوال، وبحجة أو بأخرى يتم فرض وتنزيل هذه المخططات بمسميات مختلفة، مقنعة بأهداف رئيسية تتمحور في الغالب حول قضايا مثل: تعزيز الديمقراطية، التنمية الاقتصادية، حوار التسامح، المساواة، حقوق الإنسان وغيرها من القضايا التي تسعى الدول العربية والإسلامية إلى تجاوز النقص فيها ثم النهوض في مجالاتها، استجابة لضغوطات دولية فرضتها اتفاقيات وعهود ملزمة، وتجاوبا مع منطق الإصلاح الذي يتماها مع روح التحديث والعصرنة.

فبالإضافة إلى المؤسسات الرسمية الحكومية، يعد المجتمع المدني الوعاء والإطار الذي من خلاله تقوم كل من وزارة الخارجية الأمريكية و”الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” بتعاون مع عدد من المنظمات غير الحكومية، وعلى رأسها “الصندوق الوطني للديمقراطية” بتنزيل وتنفيذ هذه المخططات في إطار جمعيات محلية ومنظمات غير حكومية، عن طريق التمويل المادي والدعم المباشر لمشاريع الجمعيات التي تندرج في إطار المخططات التي تساهم في تدعيم المساواة بين الجنسين وتكريس ثقافة التسامح وتعزيز الأفكار والقيم الديمقراطية، ثم عن طريق دعم الجمعيات حديثة التأسيس ومساعدتها على النمو والتطور، من خلال تتبع سيرها ومواكبة خطواتها وتدعيم بنائها، بتكوين أطرها وتدريبهم في محطات تكوينية تخصصية عالية المستوى، يكون الغرض منها هو توجيه رؤية الأطر حديثي التجربة وإقناعهم للانخراط في مشاريع تروم الإصلاح والتغيير بآليات ديمقراطية تكون الجمعية منطلقها.

ولا تتحرج التقارير الاستخباراتية التي تنظر وتعد الخطط للخارجية الأمريكية والاستخبارات العامة في الإفصاح عن منهجيتها وأسلوبها في استقطاب وإنشاء هذه الشبكات والجمعيات بشكل علني، حيث جاء في تقرير راند حول بناء شبكات الاعتدال الإسلامي “يمكن في البداية أن يتركز الجهد الخاص ببناء الشبكات على جماعة كنواة تتكون من شركاء موثوق بهم ومعروفي التوجه الإيديولوجي، مع التوسع انطلاقا من هؤلاء (على طريقة التنظيمات السرية). وما إن يتم التأكد تماما من توجه أية منظمة جديدة ينوى تجنيدها، حتى يصبح ممكنا للولايات المتحدة البدء في رفع مستوى العمل الذاتي المستقل لها على المستوى المحلي.” 1.

نواة، توجه وتجنيد! ثلاث كلمات تلخص دينامية الاختراق المتبعة، وتفصح عن بعض المسارات التي تستغلها منظومة الاختراق لتوجهها في سياق يخدم مصالح الاستكبار العالمي ومآربه، بحيث يصعب على المتخصص والمتابع لقضايا المجتمع المدني تمييز حدود هذه الدينامية وملامحها، لدقة الموضوع الموسوم في الغالب بروح التطوع والمبادرة التي يصعب وصمها بغير سمات الخير، ولتداخل عوامل التأثير المباشر وغير المباشر مع قابليات الناس الذين روضت أفكارهم وسيقت إلى معسكرات التجنيد الحر والإجباري، مما يجعل تمييز الصالح من الطالح في مؤسسات وشبكات المجتمع المدني أمرا صعب المنال، بل يعد محالا، خاصة إن طغى ظن الاستحالة في حق اختراق العالم العربي والإسلامي، لجبروت المعتقد الديني والفكري للشعوب العربية والإسلامية ولهشاشة المنطلقات الخارجية التخريبية. في حين أن “ما يتبدى في الظاهر راسخا ثابتا يتكشف عن قوة ذابلة بالكاد تحافظ على نفسها، وما يظهر هشا مهزوزا ينتظر نفخة الانهيار الأخيرة، يصمد عقودا ويأبى المغادرة” 2.

في الغالب ما تنحو مبادرات الولايات المتحدة الأمريكية في تأسيس الشبكات والجمعيات إلى توظيف واستغلال ما هو موجود من مبادرات ميدانية وأفكار تحمل جينات مستورة ومغربة قابلة للتهجين. بحيث يتم تبني هذه المبادرات ودعمها ماديا ومعنويا لتغدو أكثر فاعلية ومتجذرة في المجتمعات المخترقة، ولتتعاضد مع الأفكار الجينية والمبادرات الفردية التي يتم تنظيمها في نسق متفاعل من البرامج الميدانية العامة، وفي حملة مترابطة لا يمكن التنبؤ بأهدافها غير المعلنة. وبعبارة أخرى فإن هذه الجمعيات المجندة العميلة لم تأت من فراغ “بل تولدت من حركات ثقافية وسياسية أوسع، ثم تبنتها الولايات المتحدة وغيرها من الحكومات في هدوء” 3.

بشكل علني يتم التنظير لعملية اختراق المجتمعات المسلمة وتفتيتها من الداخل وخلق حالة من التقاطبات الإيديولوجية، لإضعاف التوجه الإسلامي عامة مقابل دعم وإبراز التيار الليبرالي الحداثي على مقاس الغرب. وليس عبثا ما نلاحظه منذ مدة من تفريخ للجمعيات والمنظمات النخبوية التي برزت في الساحة الوطنية بشكل طارئ وفي امتداد تنظيمي كبير دون أن يكون لها ارتباط مباشر أو غير مباشر بأي من التنظيمات السياسية والحزبية والإسلامية المحلية التي تكون لها القدرة على إحداث مؤسسات بهذا الحجم وبهذا الزخم.

وما يؤكد تميز وخصوصية هذه المنظمات المحدثة والمقنعة، هو الزخم الإعلامي الذي يواكب نشأتها وكل خطواتها بحيث يتم الترويج لأنشطتها وأفكارها دون أي عوائق أو حواجز إدارية أو قانونية، بل إضافة إلى الدعم اللوجستيكي المتمثل في تسهيل عملية استغلال الفضاءات العمومية ومؤسسات الدولة ومنصاتها العامة ومعداتها التقنية، فإن الدعم يغدوا أكثر سخاءً عند الحديث عن المنح المالية الخارجية التي تصرف وتقدم تحت مسميات عدة لهذه المنظمات والجمعيات والشبكات، رغم الغموض الذي يكتنف هذه العملية من حيث الجهات المانحة وطبيعة العلاقة المتبادلة بينهما والأهداف الحقيقية وراء هذا الدعم، “فمنذ 2006 إلى غاية نهاية أكتوبر من سنة 2014، توصلت الجمعيات المغربية بما قدره مليار و252 مليون درهم، حيث صرحت 128 جمعية بـ565 عملية تلقي أموال خارجية” 4 مما يؤكد بداية وبشكل بديهي على أن هناك خيوطا ممدودة تصل الخارج بالداخل، وأن هناك تقاربا حاصلا في البرامج والأنشطة المنظمة وأن المشاريع المحلية التي تقودها بعض منظمات المجتمع المدني تغري بعض المنظمات الغربية التي لا تتوانى في الدعم المباشر وبسخاء لهذه الجمعيات المحلية بشكل يراد من خلاله تنصيب هذه المنظمات المحلية وصية على المجتمع المدني بشكل يجذب الناس إليها ويجعلهم ينشغلون ببرامجها الكثيفة والمنظمة في أعلى مستوى شكلا، والمغرية مضمونا.

يتبع..


[1] بناء شبكات الاعتدال الإسلامي، سلسلة تقارير مؤسسة راند
[2] كتاب هشاشة الايديولوجيا جبروت السياسة، د. خالد الحروب
[3] بناء شبكات الاعتدال الإسلامي، سلسلة تقارير مؤسسة راند
[4] تقرير الأمين العام للحكومة أمام لجنة مراقبة المالية العامة بالبرلمان المغربي بتاريخ: 3 نونبر2014؛ المصدر: محمد بلقاسم: الضحاك يبسط خطة مراقبة التمويل الخارجي للجمعيات المغربية؛ موقع هسبريس الإلكتروني. بتاريخ: الأربعاء 05 نونبر 2014.