شروط التربية

Cover Image for شروط التربية
نشر بتاريخ

إن قانون التغيير الإلهي الذي جاء في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11] قائم على التربية، بما تحمل التربية من معاني التزكية والتطهير والتنمية والتنشئة.. فهي مقدمة التغيير وشرطه وأساسه.

لذلك أكد عليها الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى في جميع كتبه ومجالسه، ونظَّر وخطط لأسسها، وبرمج لجميع مراحلها الإيمانية والتنظيمية والجهادية، سواء ما يخص منها الفرد وحركاته، وما يعم الجماعة وينظم علاقاتها. وأكد رحمه الله أن التربية وظيفة دائمة ليست محددة في الزمان أو المكان، فالتربية قبل وأثناء وبعد، التربية أولا ووسطا وآخرا، مراحل زمنية مداها عمر الفرد واستمرار الرسالة إلى يوم القيامة.

هذه التربية ركيزتها ولبناتها الخصال العشر بشعبها السبع والسبعين المذكورة في كتابي “المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا” و”شعب الإيمان”، تكون الثلاث خصال الأولى منها أمهات الخصال العشر، والسبع الباقية مظاهر تطبيقية لمن جمع الخصال الثلاث واقتحم العقبات المقابلة لها، وقد سمى الإمام هذه الخصال بشروط التربية، وهي: خصلة الصحبة والجماعة، وخصلة الذكر، وخصلة الصدق.

شروط التربية

الشَّرْط: شرط، والجمع شروط. والشَّرْطُ (لغة) ما يوضع ليُلتزم في بيع أو نحوه.

والشَّرْط (في الفقه): ما لا يتم الشيءُ إلا به، ولا يكون داخلاً في حقيقته.

والشَّرْطُ (عند النحاة): ترتيب أمر على آخر بأداة تستعمل في هذا الترتيب، مثل: إِنْ، ومَنْ، ومهما…

إذن عندما نتحدث هنا عن شروط التربية نقصد أن هذه الشروط يترتب على وجودها وتحققها ما نصبو إليه من تربية وطلب لمعاني الإيمان والتزكية والتنمية والتمكين في الأرض لدين الله عز وجل، أفرادا وجماعات، فلا نجاح ولا فلاح يرجى إلا بهذه الشروط.

1- الصحبة والجماعة

عطفت الجماعة على الصحبة هنا بحرف الواو، وحرف الواو من حروف عطف النسق، سمي نسقا لأنه ينسق الكلام بعضه على بعض بحيث يأخذ المعطوف نسق المعطوف عليه في الحكم والإعراب. فالواو تفيد مطلق المشاركة بينهما دون النظر إلى ترتيب زمني أو غيره، وتمتاز الواو كذلك عن بقية حروف العطف بأنها تعطف اسما على اسمٍ لا يَكْتَفِي الكلامُ به، قال ابن مالك في الخلاصة: “واخْصُصْ بِهَا عَطْفَ الَّذِي لا يغني مَتْبُوعُهُ كَاصْطَفَّ هَذَا وابْنِي”، فكل ما دل على المشاركة لا يكون العطف فيه إلا بالواو.

دل هذا على ان الأمر صحبة وجماعة مجتمعتين؛ لا صحبة فقط ولا جماعة فقط. فلا انفصال بينها، بل هو كمال الاتحاد والاتصال والمشاركة بين صحبة تجمعك على الله مع الجهاد وبين جماعة من المؤمنين المترابطين برباط المحبة والتلمذة والمشاركة الجهادية.

قال الإمام المجدد رحمه الله تعالى: “الصحبة والجماعة مطلبان لا يفترقان”؛ الصحبة للتأكيد على أن مشروع الخلاص الفردي له مكانه في ديننا الحنيف، بل هو أساسه، قال الله عز وجل قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [سورة الأعلى، آية 9]، بالتوبة ومحبة التائبين وصحبتهم بالتلمذة والتعظيم. والصحبة والجماعة، لأن التزكية الفردية الانعزالية دروشة وخمول لن تجمع كلمة المسلمين ولن تؤهلهم لجهاد. فلابد من إرجاع الأمور إلى نصابها الذي هو التربية والسلوك النبوي، حيث كانت الصحبة والجماعة لحمة واحدة، وكان السلوك إلى الله عز وجل هو عين الجهاد في سبيله.

يقول الإمام المجدد رحمه الله “الخطوة الأولى على طريق التربية والتنظيم، على طريق المنهاج المؤدي إلى الله عز وجل بالنسبة للمؤمن، وإلى الخلافة بالنسبة للأمة وإلى سيادة الحضارة الإسلامية بالنسبة للعالم هي الصحبة والجماعة” [1].

هذه الخصلة تضم إحدى عشرة شعبة يكون مجموعها نسيجا لأخوة في الله، ومدرسة للجهاد ومحضنا للإيمان. قال الله تعالى: محمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [سورة الفتح، الآية 29]، فالمعية له صلى الله عليه وسلم هي أولى صفات المؤمنين في ذاك الزمان وفي سائر الأزمنة، وبها كانوا رجالا، وبالتراحم بينهم والمحبة كانوا جماعة، “هذه المحبة كانت طاقة هائلة مجمِّعة، وكانت اللِّحام بين أعضاء الجسد الجماعي… لحام بين المومنين مجلاه في العمل اليومي والبذل اليومي والتعاون اليومي” [2]. محبة هي دستور الصحبة وروحها، تثمر في قلوب المؤمنين المتحابين المتناصحين السالكين على خطى التربية: حب الله وحب رسوله، قال صلى الله عليه وسلم: “حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتواصلين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في” رواه الامام أحمد عن عبادة بن الصامت.

جاء في وصية الإمام رحمه الله تعالى: “وأوصي أن العدل قرين الإحسان في كتاب ربنا وفي اسم جماعتنا، فلا يُلهنا الجهاد المتواصل لإقامة دولة العدل في أمتنا عن الجهاد الحثيث لِبلوغ مراتب الإحسان. الإحسان أن تعبد الله كأنك تراهُ، ولا مدخل لك في هذا يا أخي ولا مدخل لك يا أختي في هذا المضمار إلا بصحبة تفتح أمامكَ وأمامكِ المغالق وتحدو بركبك إلى عالم النور والرقائق. لذا أوصي بالصحبة والجماعة، بالصحبة في الجماعة”.

وإنما استوجب قرنهما معا في هذه الوصية لرفع وإزالة اللبس والغموض والقصور الذي طرأ على عدد من المفاهيم القرآنية والنبوية بعد الانكسار التاريخي وانتقاض عرى الإسلام، فمفهوم “الصحبة والجماعة” هو نفسه مفهوم “الصحبة في الجماعة”، لأن المعاني اللغوية التي يفيدها استعمال حرف الجر “في” يؤكد هذا المنحى الدلالي، سواء كانت “في” سببية أو تدل على مطلق الظرفية، فالمفهوم منها أنه لا يمكن تصور تربية وسلوك على المنهاج النبوي خارج الجماعة المجاهدة.

الصحبة في ووسط ومع الجماعة، الجماعة وعاء الصحبة وظرفها، محضنها ومأواها، يقول المرشد رحمه الله تعالى: “الجهاد الأكبر جهاد النفس وسط الجماعة ومعها لهدف بنائها والصبر معها والتواصي بالحق والمرحمة” [3].

الصحبة في الجماعة ليصبح كلّ مومن فيها من مفاتيح الصحبة والخير: “… إذا مات فلان فقد ذهب إلى ربه وبقي سر الجماعة في الجماعة، فإذا كنت أنا نحلة فإنني أطلب الرحيق حيث الرحيق، نكون نحلا يطلب الرحيق حيث الرحيق. والرحيق أين؟ الرحيق في قلوب المؤمنين جميعا إذا كانوا هم قد سلكوا الطريق، إذا كانت قلوبهم قد صفت من غبش التعلق بغير الله تعالى وأصبح لكل واحد منهم طلب عند الله عز وجل” [4].

2- الذكر

تتوثق رابطة الصحبة والجماعة بذكر الله فترفع المؤمنين إلى مقام النسبة إلى الله ورسوله وكتابه، وإلى مقام التأسي والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب، 21].

الذكر الكثير مقصود ومطلوب، الذكر ماء حياة القلب ومصب الإيمان وملتقى شعبه ومصدر نوره، “ومتى أصبح ذكر الله ودعاؤه والإقبال عليه في كل زمان للفرد المؤمن والجماعة الإيمانية المجاهدة هو الشغل الأول للقلب واللسان والجسم والفكر، فقد بدأ تحول الفرد والجماعة من الغفلة عن الله لذكره، من الإباق عن بابه للتوبة إليه، من تحكيم الطاغوت لنصرة شرعه” [5].

مهد المرشد رحمه الله لهذه الخصلة بخصلة الصحبة والجماعة، وان كان الذكر هو المقصود، وذلك من باب تهييء محضن التدرب والتعلم، وتيسير الرفيق المشارك الذي يشد الأزر في الطريق. وقد أكد المرشد رحمه الله على أن يأخذ المرء لنفسه من طب الكتاب والسنة، ويتخذ له وردا يتواصى وإخوته به ويتنافسون فيه، فقال: “يكون لجند الله أوراد، أي أعمال دائمة من كل شعب هذه الخصلة. فمقل ومكثر بالتدرج” [6]، lفمن لا ورد له لا وارد له، “لا إله إلا الله أعلى شعب الإيمان. فما يقول جليس فينا ليس له ورد من الذكر، ولا جلسة للاستغفار بالأسحار؟ كيف يُنتظر ممن لا زمام يمسكه عن التسيب في الأوقات من ورد لازم، وجلوس للذكر عازم، أن يرقى إلى مقام دوام الذكر ودوام التضرع ودوام الطلب؟ يفتر الطلب، وتتفتت العزيمة، وينقطع الحبل إن لم يكن الورد دواما ومداومة وصبرا ومصابرة. بعد ذلك فقط نتحدث عن الصبر في الغد الجهادي لا قبله” [7].

الذكر شرط في الجماعة؛ “إذا كان جند الله واحدا واحدا من الذاكرين الله كثيرا سهل استعدادهم جماعة ليكون ولاؤهم للحق سبحانه من القوة بحيث يهيئهم للجهاد في سبيل الله”. رجال ذاكرون رجال مجاهدون، قوم غافلون قوم قاعدون: معادلة.

يندرج تحت خصلة الذكر ثلاث عشرة شعبة، تعطي للذكر مفهوما واسعا يشمل كل العبادات الموصولة الواصلة بين العبد وربه.

3- الصدق

شرط ذاتي ومقوم أساسي لسير الفرد والجماعة، برهان عملي يصدق ما في القلب، قناة لتصفية الصف وإصلاحه، قال الإمام رحمة الله تعالى: “نرقب الوارد العضو لنعرف صلاح أمره على مستوى الخصال العشر، صدق صحبته وانضمامه لجماعتنا، صدقه مع الله ورسوله، صدق ذمته وهمته وهجرته ونصرته، صدق بذله للمال والنفس والجهد، صدق إقباله على العلم، صدق عمله ينجزه ويتقنه، صدق سمته وتميزه، صدق صبره وتحمله وضبطه لنفسه وشؤونه، صدق توجهه إلى الأهداف الجماعية والغاية الفردية الإحسانية، صدق طلبه للموت في سبيل الله” [8].

الصدق استعداد للتحلي بشعب الإيمان يقتضي نقلة جذرية؛ من النفاق إلى الصدق، من الشك إلى التصديق بما عند الله عز وجل وبموعوده، من الخمول والخنوع إلى التشمير عن ساعد الجد والثبات، من الجهل والخرافات إلى تصحيح قواعد العقيدة وتصويب العبادة.

ومُدخل الصدق إلى سكة هذا السلوك وبلوغ هذا المقام الكينونة مع الصادقين، قال المرشد الحبيب رحمه الله تعالى: “وأوصي بالصدق مع الصادقين صبرا ومصابرة وحملا وتحملا”، مصداقا لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين [التوبة، الآية: 120].


[1] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا، ط 1989/1، ص: 123.

[2] عبد السلام ياسين، الإسلام غدا، ط 1973/1، ص 203.

[3] المصدر نفسه، ص 54.

[4] المرشد رحمه الله في إحدى مجالسه.

[5] المرشد رحمه الله في إحدى مجالسه.

[6] المنهاج النبوي، م. س. ص 153.

[7] رسالة الإمام لمجالس النصيحة، الخميس 5 رجب 1418. لقراءة الرسالة كاملة: bit.ly/2TLAqVq

[8] المنهاج النبوي، م. س. ص 177.