حديث شعب الإيمان أخرجه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “الإيمان بضع وَسِتونَ شعبة والحياء شعبة من الإيمَان”، ومسلم من حديث أَبي هرَيرة رضي الله عنه عن النَبِي صَلى اللَّه عليه وَسلمَ قَالَ: “الإيمان بِضع وَسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإِيمَانِ”، وفي رواية: “الإِيمان بضعٌ وَسبعونَ -أَو بضع وَسِتونَ- شعبة، فأفضلها قول لا إله إِلا اللَّه، وَأدناها إماطَة الأذَى عن الطَّرِيقِ، وَالحياء شعبة مِن الإِيمَانِ”، والبضع: هو عدد مبهم مقيد بما بين الثلاث إلى التسع، وقيل: إلى عشرة.
والشعبة: القطعة من الشيء، وتطلق على ما يتفرع من الشجرة من أغصان، والمراد بالشعبة في الحديث الخصلة، أي أن الإيمان ذو خصال معدودة، وهي متفاوتة في مراتبها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضلها: ذكر الله ومحبته الذي هو أساس الإيمان، ولا يصح شيء من الشعب إلا بعد تحققه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين في المنهاج النبوي: الحديث النبوي عن شعب الإيمان يعطي وسيلة التربية القلبية لا إله إلا الله، ويصف ثمرة الإيمان في خلق الحياء، ويتنزل إلى تلمس دلائل الإيمان في أسهل الأعمال وأبسطها كإماطة الأذى عن الطريق. هذه الثلاثة نماذج للسلوك الرباني النوراني: لا إله إلا الله ونورانيتها -وللتهذيب الوجداني: الحياء والخير الذي يأتي به- وللمشاركة الفعلية في الحياة العامة الجماعية: إماطة الأذى عن طريق المسلمين).
ولم يرد في الأحاديث حصر هذه الشعب، وقد اجتهد بعض العلماء في عدها، ولكن لا يجزم بأنها هي المقصودة على وجه التحديد في الحديث.
قال الحافظ ابن حجر -في الفتح (1/52)- وَلَمْ يَتَّفِق مَنْ عَدَّ الشُّعَب عَلَى نَمَط وَاحِد، وَأَقْرَبهَا إِلَى الصَّوَاب طَرِيقَة اِبْن حِبَّانَ، لَكِنْ لَمْ نَقِف عَلَى بَيَانهَا مِنْ كَلامه… وَهَذِهِ الشُّعَب تَتَفَرَّع عَنْ أَعْمَال الْقَلْب، وَأَعْمَال اللِّسَان، وَأَعْمَال الْبَدَن).
وقد ألف الكثير من العلماء الأفاضل في هذا الشأن، فقد ألف في شعب الإيمان الإمام الحافظ أبو عبد الله الحليمي، والإمام الحافظ عبد الله البيهقي وغيرهما كثير، رضي الله عن الجميع.
ورضي الله عنا إذ نلتمس على أثرهم المنهاج النبوي للتربية والتنظيم والجهاد في جمع شعب الإيمان وترتيبها وتنسيقها. ألفوا شعب الإيمان وهم رجال الحديث والفقه على نسق وافق قصدهم من جمع حديـث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديمه -كما فعل الحليمي في كتابه الذي طبع أخيرا والذي نقل عنه علماؤنا كثيرا عبر الأجيال- ككل متماسك يصور حياة الإيمان في قلب المؤمن وقالبه وفي المجتمع).
وممن ألف في العصر الحالي الأستاذ عبد السلام ياسين، إلا أنه لم يعد تجربة من سبقه ولكن لدافع آخر وهو: لنا اهتمامات لعصرنا وما بعده، ونواجه جهل الناس بإسلامهم فنؤلف تأليفا غير تأليفهم. لا نأتي بجديد بدعي، لكن نرتب مراحل التربية والتنظيم والجهاد، ونحسب سبعا وسبعين شعبة متدرجة ما فيها حرف واحد خارج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أتينا بالترتيب فقط لمقاصد تربوية تنظيمية، فهي سياسة شرعية لا غبار عليها). ووضع لها ترتيبا جديدا، يكتب: وقسمنا السبع والسبعين شعبة عشر فئات سميناها الخصال العشر، وجمعناها في كتاب يضم أكثر من ألفي حديث نبوي يسر الله تحقيقه وطبعه. ونبسط هنا إن شاء الله محصول تدبرنا لشعب الإيمان، نجعلها صلب المنهاج النبوي ودليله). وتتدرج شعب الإيمان في تربية الفرد المؤمن بدءا بالتحاقه بجماعة المؤمنين، تتدرج به من مسلم إسلاما وراثيا على جندي من جند الله الأولياء المجاهدين، تتدرج الخصال العشر من الخطاب القرآني للإنسان وندبه إياه لاقتحام العقبة والكينونة من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة).
فحصول الإنسان في مرحمة الجماعة، باكتشافه أخوتها الدافئة الرفيقة الباذلة الحنونة، يحصل الخصلة الأولى: الصحبة والجماعة، ثم يترقى من خصلة إلى خصلة حتى يحصل الخصلة العاشرة وهي: الجهاد. وبذلك تكون تربيته تمت، وعضويته في تنظيم جند الله استوثقت. وبتحصيل جند الله جماعة لفضائل شعب الإيمان يكون التنظيم قد استوفى خصـائص حزب الله المنصورين الغالبين).
إن شعب الإيمان، كما يدل على ذلك المعنى اللغوي لشعب، روافد يتألف منها نهر الإيمان. فإن تصورناها خيوطا إيمانية تربط العبد بربه فهي تكون، إن فتلت وأتقن تأليف رجالها حتى أصبح خلقهم القرآن، حبل الله المتين الممتد من السماء رحمة إلى الأرض، حيث تظهر عملا حكيما وجهادا مجددا. وعندئذ فالتمسك بجماعة المسلمين في الأرض استمساك بالعروة الوثقى). حديث شعب الإيمان جامع لكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يضع قدمي المسلم على بداية الطريق الصحيح نحو سلوك سليم إلى الله عز و جل ومرضاته، حديث لا غنى للمسلمين اليوم عن تدبر معانيه وتطبيق توجيهاته من أجل حياة إيمانية سعيدة دنيا وأخرى.
إن أول عائق يعترض تقدم المسلمين في الدنيا، هو غياب تصور واضح المعالم، تصور يوضح بداية الطريق، ويبين المحطات الرئيسة، رغم وجود النبع الصافي الذي لا ينضب من قرآن ربنا الكريم وسنة نبينا الطاهرة واجتهادات علمائنا الأفاضل. وهدا الحديث الشريف يبين لنا العين التي ينبع منها الإيمان، وجميع الشعب والفروع التي يحتاجها المسلم في علاقته بربه ونفسه ومجتمعه. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: فنريد أن يكون سلوكنا على بصيرة واتباع، ونريد أن تكون الدعوة دعوة إلى الله، لا مجرد دعوة للإسلام أو مجرد دعوة للجهاد. فإن ذكر الغاية -وهي وجه الله تعالى- والتذكير بأن الأمر سير، وسلوك، ومراحل زمنية مداها عمر الفرد واستمرار الرسالة إلى يوم القيامة، يعطينا تصورا متحركا للإسلام، يصور لنا الإيمان مجموع علاقات بين العبد وربه وبين العبد والناس، ثم بين جماعة المؤمنين المخاطبة بالقرآن، وبين سائر بني الإنسان، تم يصور لنا معنى كل ذلك، ومعنى المبدأ والمعاد والدنيا والآخرة).
مطلوب من كل مسلم أن يرتوي من كل شعبة من روافد الإيمان البضع والسبعون، وأن يكون له الحد الأدنى من كل واحدة، كما هو مطلوب منه أن يتفوق في إحداها أو مجموعة منها، وهذا ما يصطلح عليه في الفقه المنهاجي بالمجموع، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متفاضلين باعتبار المجموع، فما أجمعت عليه الأمة من تفضيل بعضهم على بعض استنادا لتفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم لا يدل على أن الفاضل فاضل في كل خصال الإيمان، بل يدل على أن مجموعه الإيماني في كله أرفع عند الله درجة وأثقل في ميزان الأعمال والجهاد وزنا. ولا يمنع فضل هذا في جزئية إيمانية أن يكون مفضولا في مجموعه).
أورد الترمذي وابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرأهم لكتاب الله أبي، وأفرضهم زيد، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ. ألا وإن لكل أمة أمينا، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح”.
يعالج الأستاذ عبد السلام ياسين أحاديث شعب الإيمان عبر مستويين، ويربطهما دوما بالفرد، وهو المستوى الأول، بمعنى كيف ينبغي للمسلم الفرد أن يتمثل الحديث الشريف سلوكا في حياته الفردية؟ والمستوى الثاني، وهو على صعيد الجماعة المِؤمنة والأمة جمعاء، أي ما هو سبيل الأمة لتستفيد من أحاديث المصطفى؟ وهذا من بين التجديد الذي جاء به الأستاذ عبد السلام ياسين. فكل حديث ينبغي أن يعمل به المسلم الذي يجب أن ينتمي بالضرورة إلى جماعة المؤمنين، وهذا ما يحث عليه الإسلام ويهدف إليه، تكوين جماعة مؤمنة، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: انتماؤنا إلى الله عز وجل بوحدة السلوك الإيماني الأخلاقي لا يعني أن نتبخر من على الأرض، بل بالعكس يعني أن نلتحم في جماعة الجهاد، ثم نسعى بعد إقامة الدولة الإسلامية القطرية أن نلتحم عبر حدود الفتنة حتى النصر والخلافة والوراثة بإذن الله. وهذا يعني تحرير الإنسان، وتحرير الأرض، والجلاد على ذلك).
فعلى مستوى الفرد، وفي الوقت الحالي زمن الدعوة، قبل قيام الدولة الإسلامية يمثل نهر الإيمان بشعبه الثرارة وقوته الزاخرة في قلوب الإسلاميين الصاحين من غفوة، الذاكرين الله من غفلة، المتحفزين لجهاد، طاقة النهوض لموعود الله بقيام الخلافة على منهاج النبوة، ووحدة المسلمين في العالم، لموعود الله بدخول الإسلام أهل الحجر والمدر، لسيادة الحضارة الإسلامية والقيم الإيمانية على الجاهلية في الأرض). أما في غد الإسلام، يوم يحكم الإسلام، فـمهمات المؤمنين يوم الإسلام كثيرة وضخمة وشاملة ودقيقة، فلا بد من تهييء الإسلام. وذلك من أول واجبات التربية والتنظيم، وشعب الإيمان بعددها الواسع وشمولها للعقيدة والعاطفة والحركة، وكل السلوك، هي المضمون الذي يتجسد فيه الإيمان طريقا إلى الله وحلا لمشاكل المجتمع والأمة، ومنهاجا للحكم، وتنمية، وسياسة).
أما على صعيد الجماعة فإن: الجماعة المؤمنة التي تقوى على الجهاد بتوفر الكفاءات والفضائل في أفرادها وتكاملها. فبالنسبة للجماعة يمثل نهر الإيمان مجموع السلوك الإيماني في مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية).
فمعنى الحل الإسلامي أن يهيمن شرع الله بأحكامه، والإيمان بالله بكل شعبه، على كل حركات المجتمع وعلاقاته ونشاطاته، في القضاء، في الحكم، في الجيش، في الإدارة، في الشرطة، في التربية، في الشباب، في إنصاف المرأة، في قوامة الرجل، في الأموال والاقتصاد، في الحياة اليومية، في علاقات المسلمين مع الصديق والعدو، في الأسرة والبيت، في القطر وعبر الأقطار، حتى يتوحد المسلمون في العالم).
الذين يقترحون الحلول المستوردة لورطة المسلمين التاريخية، وتخلفهم الاقتصادي وهزيمتهم العسكرية والحضارية، يلفقون من أفكار وقيم الجاهلية، يقترحونها أو ينفذونها ويفرضونها إن تسلطوا على الحكم، فيزداد الخبال في مجتمعاتنا الضحية).
وغداة الإسلام نحتاج أن تحتل القيم الإيمانية محل قيم الفتنة في كل مجال، وتملأ فراغا كبيرا على كل مستوى، بعد أن ينفر الشعب من رائحة كل ما ليس منا ولا من ديننا. في كل جزئية مهما صغرت من حياة الأمة لا بد أن يهيئ المجاهدون الجواب عن الأسئلة، والنشاط الإيماني ليخلف النشاط الجاهلي، والفكر الإسلامي ليسود حيث كان يسود غيره، والأخوة الإسلامية لتعود الرحمة فتغطي الكراهية، والعدل الإسلامي لينهي الاستغلال الطبقي والحقد والبؤس).